طالب عبد العزيز
للأجناس الأدبية والفنية عمرٌ افتراضي مثل كل ظاهرة في الوجود، تقف عنده، أو تنصرف الى شكل ومسمّى آخر، يتجاوزه، أو يختلف في تمظهراته عن أصله الأول، بالقدر الذي يمتدُّ فيه، أو ينقطع عنه، فقد انتهى عصر الملاحم مثلاً، ولم نعد نقرأ النوع من الكتابات هذه، وعزفت السينما عن انتاج ما كنا نسعى ونتحرق لمشاهدته من أعمال كلاسيكية، واقعية، اللهم إلا مما يجتهد المخرجون فيه، فيقدمونه من وجهات نظر مختلفة، قد لا تمت الى الأصل بشيء، لكنها قد لا تنصرف عنه، ولم يتوقف الامر عند الروايات والملاحم والسينما إنما تجاوزه الى مفاصل الحياة الأخرى.
نقف اليوم ساخرين من جملة (الشعر ديوان العرب) مثلما يقف العالم اليوم غير مبالٍ بمقولة باريس مدينة النور!، ومثلما كانت توصف به الرواية الروسية، في القرن التاسع عشر، أو روما في عصور النهضة وهكذا، حال الكثير من الثوابت الثقافية والاقتصادية والسياسية، فهذه بريطانيا التي لم تعد عظمى، حتى باتت تحكم من الهنديِّ المستعْمَر، وأمريكا التي لم تعد الاقتصاد الأقوى في العالم بوجود الاقتصاديات الجديدة، وهكذا سيكون حال الايدولوجيا والأديان والمؤتمرات الفكرية والثقافية أيضاً، فقد تحول الحزب السياسي الى مجموعة بشرية تلتقي في مقهىً، على القارعة، في شرقنا الأوسط، بخاصة، لا يتقدم بشيء ذي معنى، أو في غرفة تدار وقائعها عبر دائرة الكترونية ضيقةٍ، في أرقى الأحوال.
سيحقُّ لنا استعارة ما يحدث في العالم من متغيرات وتحولات من عوامل ظهور واختفاء وتغيير الاجناس الأدبية والثقافية فهي متعلقة بمتطلبات كل عصر وقضاياه المختلفة أولاً، وبالتقاليد الفنية الموروثة والمستجدة ثانياً، وبالقدرات الإبداعية للمنشئين وعبقريتهم ومدى استيعابهم للموروث، وما لهم من تطلعات ثالثاً، ويصحُّ تطبيق ذلك على مجمل مفاصل الحياة. لكن، هل بمقدورنا تطبيق الأسباب التي أدت الى التحولات في العالم على مجتمعاتنا العربية؟ الإجابة ستكون كلا. ذلك لأنها مازالت تدار بعقلية التخلف والاستبداد، ومفهوم الأمير والقبيلة في السيطرة والحكم، ومن حيث المبدأ فهي تقع خارج عناية مراكز البحوث والأكاديميات، وبعيداً عن خوارزميات التحولات السياسية والعلمية، مع أنها تستعمل مظاهر التحولات في كثير من أفعالها اليومية إلا أنَّ بنية التخلف والاستبداد تحجبها عن ذلك.
تسارع وسائلنا الأعلامية الرسمية وشبه الرسمية بنقل آخبار أحدث المخترعات، ويصطف شبابنا على المتاجر لشراء أحدث الهواتف وألألعاب الالكترونية، وتؤثث زوجة المسؤول الحكومي بيتها بأفخر الأثاث الأوربي، وهناك العشرات من الأمثلة، التي تحاكي التمظهرات تلك، لكنَّ زيارة سريعة لمدارسنا ومستشفياتنا ومؤسساتنا الرسمية تكشف لنا مدى البعد الذي لم نبلغه، وحجم التخلف الذي نعيشه، وعدد السنوات الضوئية التي تفصلنا عن العالم. أن تكون خارج الزمن وأنت فيه تلك هي المصيبة، وأن تعي قلةٌ مهمشة جوهر ما يجري في العالم ولا يؤخذ برأيها تلك هي الكارثة.
لا يجد المتصدي للشأن الثقافي العربي، ومن أعلى المستويات بأساً في إقامة مهرجان للشعر، أو معرضٍ فنيٍّ، بالآليات التقليدية القديمة، في مناسبة دينية، واجتماعية، أو حزبية داخل الجامعة مثلاً أو خارجها، ويحسبها على أنها نشاط فكري ثقافي، غير مبال بأهمية التحولات التي تعصف خارج القاعة، بما يكفي عن الإشارة الى وجوده محنّطاً في الزمن، معلباً في روزنامة على الحائط، ومن حيث لا يعلم أو يعلم فهو يسهم في إدامة آلة التخلف والاستبداد. لا يشعر المواطن البسيط- ضمن دوامة انشغاله بموجبات حياته- بالضرر الذي يلحقة سلوك كهذا به، لكنه سيكتشفه في التعاملات اليومية، في السوق والشارع والمدرسة والمستشفى ووو إذْ أنَّ بقاءنا على ما كنا نراه ثابتاً ومقدساً يحجب عنا ما يعتمل في الكون من سلوك.
مشكلتنا أننا لم نعد نتذوق الشعر- إنْ تذوقناه- إلا ما لامس فجائعنا وخيباتنا، ولا نسمع الموسيقى-إن سمعناها- إلا ما كان منها ندباً وصراخاً، ولا نشاهد اللوحات –إن شاهدناها-إلا ما كان منها مضرجاً بالدم والدموع.. . فيما يغادر الذين من حولنا ذلك كله، الى ما هو خليق بأن يقرأ، ويسمع، ويعاين، بوصفه نتاج التحولات الكبرى التي لم تعد ترفاً في الفكر، إنما هي الحاجة الفعلية التي تقوم عليها المجتمعات.