TOP

جريدة المدى > عام > في أهمية المعاودة والتأصيل

في أهمية المعاودة والتأصيل

نشر في: 11 مايو, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
لا شك في أن الملحمة أول جنس شعري وصل إلينا مدونا عن مرحلة هي متأخرة بالنسبة إلى الزمن الذي فيه عُرفت الحكاية الخرافية التي كانت تُحكى على وفق ترتيب معين ومنه اشتقت الأنواع الحكائية والشعرية والأغاني والمأثورات القولية والحكايات الشعبية والأناشيد والتراتيل وأغلبها ذات طابع ديني وتأثراتها تتضح في ملحمة جلجامش التي أثرت بدورها في الإغريق والرومان. وكان الباحث والآثاري العراقي الأستاذ طه باقر قد ذهب إلى أن للأدب في وادي الرافدين أو أدب العراق القديم ميزتين ليستا في غيره من الآداب القديمة: الميزة الأولى أنه موغل في القدم وسبق جميع الآداب العالمية سواء أكان ذلك من ناحية الأساليب وطرق التعبير أم من ناحية الموضوع والمحتوى أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية، والميزة الثانية انه وصل إلينا على هيئته الأصلية غير محور أي كما كتب ودوِّن بأنامل الكتبة السومريين والبابليين قبل 4000 عام على عكس الآداب العالمية القديمة التي عانت من التحوير والتبديل والإضافة على أيدي النساخ والجماعين والشراح.
وعلى الرغم من تطور أساليب البحث ومناهج الدراسة الغربية منذ عصر النهضة الأدبية حتى اليوم، فان الاعتقاد ما زال ساريا بأن العرب عرفوا الحكاية الخرافية بعد تعريب ألف ليلة وليلة إليهم. ولقد أكد ديرلاين هذا الاعتقاد في قوله:(فإذا ما عثر الإنسان لدى العرب على حكايات خرافية شبيهة بما عند الألمان فلا بد لكي نفسر ذلك من الرجوع إلى أصل حكايات ألف ليلة وليلة أي إلى أصلها الهندي كما ادعى شليجل بحق) وكأن أوربا ليست هي من أقامت على آداب العرب آدابها الحديثة، بل أن كثيرا من المستشرقين لا يذكرون العرب إلا في تشكلهم الإسلامي فيذكرون الحضارات الصينية واليابانية والهندية ثم يذكرون الحضارة الإسلامية؛ فهذا صاحب كتاب(صدام الحضارات) يقول:(يقر جميع الباحثين الرئيسين بوجود حضارة إسلامية متميزة بعد أن نشأ الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي.. ثقافات متميزة وحضارات فرعية كثيرة توجد داخل الإسلام تضم العربية والتركية والفارسية)
ان هذا القول لا يخطِّئه التباعد التاريخي بين العرب والألمان حسب، بل يكذبه أيضا ما كان للاكديين من تأثير في الأقوام العربية التي هاجرت شمال الجزيرة العربية وهو زمن بعيد جدا عن عصر ترجمة ألف ليلة وليلة، وقبله بزمن كانت قد نمت عند العرب فنون أدبية شعرية وسردية اتخذت قاعدتها من الحكاية الخرافية.
إن أهمية معاودة دراسة الحكاية الخرافية يؤكدها هذا التطور في النظرية الأدبية عامة ونظريات السرد ما بعد الكلاسيكي خاصة التي أولت في الآونة الأخيرة اهتماما خاصا بالسرديات ما بعد الحداثية التي استعادت بدورها المنحى اللاواقعي في السرد واهتمت بالجذر الأساس الذي منه انطلق السرد وتشكلت قوالب الأجناس السردية ألا وهو الحكاية الخرافية حيث طفولة الشعوب والآلهة والأبطال الخرافيين من البشر والحيوان.
ومن يعد إلى أدب وادي الرافدين فسيجد أنهم كانوا يذكرون في آدابهم ماضيا بعيدا مجيدا يتغنون به ويبكون عليه لانه كان عصرا ذهبيا. ومن هنا تطور الشعر عندهم كنتيجة لتطور فن الرثاء وترانيم المراثي التي فيها تقبع حكايات هي الأساس لكثير من القطع النثرية التي اتخذت شكل الرسائل وأعمال الملوك والأخبار التاريخية ومجموعة كبرى تتضمن التراتيل والأغاني الدينية والصلوات والأدعية المخصصة للآلهة المختلفة في الأعياد الدينية. وما من عادة من عادات أهل وادي الرافدين إلا هي متخيلة ومحكية عن أناس منهم تشكلت هذه الشعوب كرعاة أو صيادين أو مزارعين.
إن التغافل عن التاريخ الرافديني الذي تنتمي إليه الحكاية الخرافية هو في الحقيقة تغافل عن فهم ميكانيزما البشر في التفكير ودور الفكر البشري الأول في التأسيس للحضارات وبناء الدساتير ونشأة الآداب. وليس من قصدية وراء هذا التغافل سوى قصدية تغييب الموطن الأصلي للحكايات الخرافية الذي هو بلاد سومر.
وتحديد هذه الميكانيزما الفكرية وربطها بموطن معرفتها الأول يعني وضع أساس صحيح لبناء نظرية أدبية جديدة تذهب بعيدا عن الحكايات الإغريقية والبوذية والهندية والبيزنطية والأوربية وتقترب كثيرا من الشرق الأوسط وبلاد وادي الرافدين عامة ومن بعدهم العرب خاصة.
ولعل في هذه القرابة ما بين الخرافة والأسطورة والملحمة توكيدا لحقيقة أن الحكاية الخرافية هي القاعدة الأساس لأي عمل فيه للخيال دور ومتولد بالفطرة وبطريقة إبداعية واعية أو ارتجالية وبحسب ما يتوفر للإنسان من طاقة في تصوير قوى الطبيعة المليئة بالأسرار وتمثيل طبائع البشر في إدراك الكون من حولهم. ومن ثم لا نظرية أدبية من دون مركزة الحكاية الخرافية كنقطة منها تفرعت الأنواع الأدبية الأخرى فضلا عما أسست عليه المجتمعات نظمها الحياتية ووضعت قوانينها مخطوطة على الرقم الطينية بدءا من السومريون قبل سبعة آلاف سنة ومرورا بالأساطير والفابولا(الحكاية على لسان الحيوان) ووصولا إلى قصص بوكاشيو وحكايات سترابارولا.
ومهما يكن من نظريات تدعي أن الحكايات الخرافية أصلها هندي أو بوذي، فان الكشوفات الاثارية تبطل مثل هذه الدعاوى وتؤكد أن النظرية الأدبية ينبغي أن تبدأ من الأصل الذي هو الحكاية الخرافية في بلاد الرافدين التي امتلكت أرثا سرديا منها. وهو على قلته يؤكد أنها كانت القاعدة لكل أشكال الكتابة الأدبية وغير الأدبية التي عرفها الإنسان لاحقا لاسيما موضوعة الحياة والموت التي تغلغلت في كثير من قصص العرب الطريفة عن أخبار المعمرين كقصة لقمان الحكيم الذي عاش أعمار سبعة نسور كان آخرها لبد.
إن بغيتنا من إرجاع الحكاية الخرافية إلى شكلها الأول هو تأصيل النظر السردي ما بعد الكلاسيكي وتعضيد جهود المنظرين في مساعيهم نحو تقعيد أساسات السرد بأجناسه وعناصره على وفق محددات محورها هو العناصر الخرافية أي اللا طبيعية أو غير الواقعية التي هي ميراث فني من مواريث الحكاية الخرافية الضاربة جذورها في القدم.
ومن المؤكد أن الإنسان فكر وتأمل ما هو أقوى منه، واستجاب لما كان فكره يصوره له أو يتخيله غير مفرِّق بين ما هو ممكن ولا ممكن، حقيقي وسحري، أدبي وغير أدبي. ومن هنا كانت حياته قائمة على الرموز التي استقاها من أساطير تخيلها وعليها بنى عقائده فأسس الحضارات وشيد الدساتير والأحكام.
وميزة الرموز أنها قابلة للتناقل عبر الاجيال وتستمد من تناقلها الجيلي هذا مزيدا من الرسوخ كما تكون قابلة للتوالد والتطور. وما نظرية كارل يونغ حول اللاوعي الجمعي والانتقال الجينالوجي للثقافة سوى مثال من أمثلة علمية كثيرة يمكن بها تدعيم عملية التناقل الجيلي للشعوب عبر التاريخ. وقد تتشابه الرموز بين بعض الشعوب لكن يظل لكل شعب خصوصيته في تناقل الرموز، فالأصل الذي هو الحكاية الخرافية يظل خاصا بكل شعب وما عنده من طقوس دينية وشعائر حياتية.
وما البعدية الكلاسيكية في نظرية السرد غير الطبيعي سوى استعادتها للسرد في أزمان سحيقة لم تكن النظريات الأدبية الكلاسيكية قد أولتها اهتماما على أساس أن تلك الأزمان بدائية قديمة ولم يكن للأدب أي تشكل صوري يصلح للدراسة مع أن في معتقدات الشعوب صورا مختلفة اتخذت من أشكال الحيوانات والطبيعة الصامتة موضوعا أدبيا لها. وما زالت هذه التصورات تعيش في عقائد هذه الشعوب المعاصرة الروحية والجغرافية وبشكل تلقائي.
والأساس الذي تتم فيه معاودة دراسة الحكاية الخرافية هو التنظير لها بصفتها سردا غير واقعي هو ناتج من نواتج تفكير الإنسان في أزمان سحيقة لم تسع إلى البحث فيه أية نظرية من نظريات السرد البنيوية وما بعد البنيوية، ذلك أن صراع العالم اليوم هو صراع ثقافات والتراث العربي لاسيما في ما قبل العصر الجاهلي ما زال مدفونا أو مجهولا أو بالأحرى هو موجود ولكنه خام لم تصل إليه أيدي الباحثين العرب بشكل شمولي مثلما لم تصل أيديهم إلى حقيقة ما نُقل من إرث العرب الأدبي والفكري إلى أوربا عن طريق الأندلس. ومؤكد ما للأدب والفكر من دور في بناء واقع جديد تتعدد فيه الثقافات وتبنى من خلاله الحضارات، والحضارة والثقافة متلازمتان في تشكيل أسلوب حياتنا وحياة الشعوب من حولنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الحرس الثوري يستهدف مقر البث الميداني للقناة 14 في حيفا بصواريخ "سجيل 3"

خامنئي: العدو الصهيوني يلاقي جزاءه الآن

إسرائيل تغتال عالماً نووياً إيرانياً في طهران

غالانت: تدمير "فوردو" مستحيل لإسرائيل.. وأميركا وحدها تملك القدرة

ماكرون: عرض تفاوضي شامل لإيران يشمل دعمها لحلفائها في الشرق الأوسط

ملحق عراقيون

مقالات ذات صلة

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته
عام

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته

ديفيد روبسُن* ترجمة: لطفية الدليمي وأنا أتناولُ فطوري صباح هذا اليوم، إستمتعتُ أيّما استمتاعٍ بحديث قصير مع ميا Mia، زميلتي الجديدة في دراسة اللغة الإسبانية. استعرضتُ بعضًا من درسي الأخير، وشرحتُ ما تعلّمْتُهُ عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram