فخري كريم
تستعد الأوساط الشبابية والشعبية الموجوعة من غياب الخدمات "الحياتية" ومظاهر التضييق على الحريات، للخروج في مظاهرة "جمعة الإصلاح والتغيير" للمشاركة في صنع القرار،
و في تقويم سلوك السلطة السياسية، وممارساتها وعلاقتها بقاعدتها الاجتماعية، وتأكيد مرجعية هذه القاعدة وقدرتها على تطويع السلطة وتصويبها. وتتداول التجمعات التي أطلقت مبادرة التجمع والاحتجاج، فيما يجرى نشره وتناقله من ردود أفعال مختلف الأحزاب المشاركة
في السلطة وخارجها حول جدوى ما تقوم به، والاحتمالات السلبية التي قد تنجم عنه، لجهة اندساس قوى "الثورة المضادة" فيها وتكييف أهدافها وتوظيفها لخدمة مراميها وأغراضها المعادية للنظام الديمقراطي.
ويجري التعبير في بعض الأوساط الحكومية عن مخاوف من طابع آخر، قد تتخذه المظاهرة، أو عموم الحركة الاحتجاجية الجارية في البلاد، وهو ما أطلق عليه ،"تسييس هذه الحركة".
ويراد بذلك، محاولة جهات مشاركة في الحكومة والبرلمان ومجالس المحافظات، التسلل إلى مظاهرة الجمعة، بل والتعبئة لها بقصد توظيفها كقوة ضغط لتحسين شروط مشاركتها في الحكومة، وتوجيه أنظار المظاهرة ضد حليف لها وتحميله المسؤولية عن تعثر الخدمات والامتناع عن الاستجابة للطلبات المتزايدة منذ سنوات لمعالجتها.
كما يساق في هذا الإطار، المخاوف من هشاشة الوضع الأمني في البلاد، وفي بغداد بالتحديد، والقلق من استثمار أي ثغرة طارئة أو مقصودة قد تؤدي إلى مصادمات أو تعرضات جانبية تزيد الاحتقان وتفجر الغضب الجماهيري.
إن القلق من أي احتمال سلبي أمر مشروع، ولابد من اتخاذ تدابير احترازية لمواجهة تداعياته، والتحذير منه. لكنه لا يجوز أن يتحول إلى هاجس امني يقود إلى التشدد في الموقف من المظاهرة، والخشية من اعتياد المواطنين عليها.
فالديمقراطية لا تستقيم ولا تتكامل وتتعافى، دون إطلاق الحريات العامة التي يكفلها الدستور، ومنها حرية الأحزاب والاعتصام والتظاهر، وعدم تقييد ممارستها بكثرة من الشروط والطلبات. ولا يقلل من الحق بهذه الممارسات، وجود قوى مضادة للنظام الديمقراطي القائم أو عناصر مشاغبة و تخريبية تتسلل إلى أي فعالية سياسية أو اجتماعية بهدف إجهاضها وتخريبها.
وليس غريبا أن تتعامل القيادات السياسية كل من موقعها، بالقلق من الممارسات الديمقراطية أو العمل على توظيفها والانخراط فيها، خصوصا في ظروف الأزمات أو الصراعات العلنية أو الخفية على السلطة السياسة.. لكن الغريب أن يغيب عن أذهان هذه القيادات، أن هذا التحرك الاحتجاجي، في جوهره، هو تفعيل وتنشيط لتعزيز العملية السياسية الديمقراطية، والدفاع عن أركانها وتكريس أسسها.
فالمواطنون بمثل هذه التحركات الاحتجاجية السلمية يتصدون للدفاع عن حقوقهم والمطالبة بكشف المقصرين والمفسدين وتجريدهم من مسؤولياتهم وتحديد الأولويات الملزمة للسلطة السياسية ومفاصلها المختلفة في المحافظات وفي كل ركن وزاوية من البلاد، وبهذه التحركات والمبادرات الشعبية يتم تنبيه القادة والمسؤولين بمختلف مواقعهم ومراتبهم أنهم هم (أي المواطنين) قاعدة النظام الديمقراطي ومرجعيته الشرعية. وعلى السلطة الرضوخ لإرادتهم وما تعكسه من مطالب.
إن عشرات العقود من تعاقب الدكتاتوريات والسلطات المستبدة، حالت دون إطلاق الطاقات الخلاقة للشعب.. وهو يسعى الآن لاستعادة المبادرة، واكتشاف مكامن قوته وتأثيره، والعمل على المساهمة بتمكين نظامه الديمقراطي من استكمال شروط بنائه، وتشذيبه من التشوهات التي ألحقها به الفساد وبقايا الدكتاتورية والمحاصصة، وما أقحمه فيها، وهي في طور التكوين، الحاكم المدني للاحتلال الأمريكي بريمر.
إن الشعب يستطيع عبر ممارساته التعرف على جوانب القوة والخلل في نشاطه، وكلما تعافى من مكامن ضعفه بسرعة، يكون بإمكانه تأكيد مرجعيته باعتباره مصدرا لكل السلطات.
لقد أثار شعبنا إعجاب العالم وهو يعبر عن إرادته من خلال الانتخابات والاستفتاء على الدستور، وهو يواجه الإرهاب والعنف والقتل على الهوية.
ولم تستطع قوى الردة الظلامية وفلول النظام الدكتاتوري كسر شوكته وإضعاف عزيمته في المضي قدما لبناء تجربته الديمقراطية حتى في ظل سيادة البلاد المنقوصة. وهو قادر بكل كفاءة وإصرار على تكريس هذه التجربة وتصحيح مسارها، وانتشالها مما تعانيه من مظاهر الفساد والنهب وانعدام الخدمات والتضييق على الحريات والمحسوبية الطائفية والفئوية والبطالة.
إن المحتجين إذ يأخذون قضيتهم بأيديهم، يعرفون بفطرتهم التي عركتها المحن السياسية منذ عقود، من هم النهابون ولصوص المال العام ، ومن هم المستفيدون من استمرار الأوضاع الراهنة على ما هي عليه، ومن هم المتمسكون بالامتيازات، وهم إذ يعرفون كل ذلك، قادرون على عزل أي طرف "مدعٍ" والحيلولة دون تسلقه حركتهم وتوظيفها لتنفيذ مآربه الحزبية الضيقة، وأجندته السياسية في إطار الصراع غير المبدئي على المغانم والامتيازات، وليس دفاعا عن مصالح الملتاعين بالتجويع والبطالة وانعدام الخدمات الإنسانية الأولية والتعدي على الحرمات والحريات.
إن الحركات الاحتجاجية التي تستهدف الحكومات المحلية تعرف أن الذين يظهرون التعاطف معهم من المشاركين في المركز والمحافظات سبق لهم أن تناوبوا على حكمهم واكتشفوا سرائرهم في التعامل مع قضايا المواطنين طوال السنوات الماضية، .. بل يعرفون جيدا مآثرهم في ملاحقة المواطنين ومصادرة حرياتهم تحت واجهات دينية ومذهبية وطائفية ولا يتوانون عن تكفيرهم كلما ضعفت دالتهم على المواطنين واستمرؤوا تطويعهم وفرض الأمر الواقع عليهم.
من الملفت أن الحكومة "بكل مكوناتها "اكتفت حتى الآن، وهي تعبر عن قلقلها من "مظاهرة الجمعة"، اكتفت بالحديث عن استعدادها للاستماع إلى مطالب المتظاهرين والعمل على الاستجابة لما يمكن منها لكنها لم تبادر إلى اتخاذ أي تدبير ملموس لطمأنة الغاضبين ومعالجة ما يمكن من مطالبهم الملحة وهي كثيرة وقابلة للتنفيذ.
إن شبيبة المدونات والمحتجين الغاضبين الذين يدعون للخروج في مظاهرة جمعة "الإصلاح والتغيير" أمام امتحان هم بمستوى تحدياته،... فهم مقبلون على تجربة جديدة لا تشبه مثيلاتها العربيات.... وأوجه الاختلاف معها عديدة ومنها:-
• إن الحركة الاحتجاجية العراقية تطالب بالإصلاح والتغيير وتنحية الفاسدين وليس المطالبة بإسقاط النظام.
• إن الطابع المطلبي حركة مشروعة باعتراف أركان السلطة باختلاف تجلياتها.
• إن "التسييس" في الحركة إنما هو تأطير لمطالبهم، إذ يتعذر تحقيقها دون إجراء انعطافة سياسية في توجهات الحكومة المركزية وفي المحافظات وتغيير أولوياتها. كما أن هذا التسييس يعني تنحية الرموز الفاسدة أينما حلت وسحب الثقة من كثير من رؤساء المحافظات والمحافظين الذين يتصرفون كملوك إقطاعيات القرون الوسطى، لا يأبهون لغضب المواطنين وتذمرهم.. وبين أولئك المتنفذين في المحافظات من جاء من المجهول بلا كفاءة ولا أهلية سوى الانضمام إلى هذه الكتلة أو تلك أو هذا المكون أو ذاك، ومن هؤلاء حكومة بغداد ورئيسها الذي تصرف بتعال وعنجهية ذكر البغداديين بسلف لا يرفع الرأس.
• إن الفساد الإداري والمالي هو نتاج مباشر لنهج سياسي يطالب الغاضبون باجتثاث جذوره ومسبباته "والتضحية "ببعض رموزه في الأقل ،بالتساوي بين المكونات وكشفها علنا أمام الرأي العام وتقديمها إلى العدالة ، للبرهان على جدية الحكومة واستعدادها لمكافحة الفساد لا الاكتفاء بذكرها .
• إن المحاصصة "المذمومة أصلا" تحولت في التطبيق العملي إلى الوزارات ومرافقها وتقاسمتها الأحزاب والمكونات والوزراء "بالنيابة عن المكونات نفسها وأصبح هذا التقاسم رأسا للفساد تفوح رائحته، وأصبح العمل على معالجته مطلبا لا يقبل التأجيل إذ تحولت في كل وزارة بفعلها إلى وكر ومقر حزبي، تمارس فيها نشاطات حزب الوزير وطقوسه الدينية والمذهبية.
• إن الدستور على علاته لا يقبل التجزئة.. فالتجاوز عليه من قبل الحكومات المحلية يتم أمام أنظار الحكومة المركزية وصمتها ويجرى عبر ذلك تحويل البلاد إلى مدن أشباح وكانتونات حزبية وفئوية.
لقد تعرف المواطنون على تقييمات الأطراف الحكومية لحق الناس في الاحتجاج والتظاهر ونوايا كل منها وموقفها من هذا الحق.
وآن الأوان أن يجري الكف عن اتهام أصحاب المظالم والشباب والباحثين عن الرزق الحلال والمدافعين عن الحريات العامة والخاصة التي يكفلها الدستور بالشبهات، لان في ذلك تنصلا وتبريرا للفساد وتجاوزا على الحقوق المكفولة بالدستور.