TOP

جريدة المدى > عام > صفقة فاوستية بين الانسان والذكاء الاصطناعي، لمن ستكون الغلبة؟

صفقة فاوستية بين الانسان والذكاء الاصطناعي، لمن ستكون الغلبة؟

نشر في: 14 مايو, 2025: 12:02 ص

لطفية الدليمي

يتناول راي كيرزويل Ray Kurzweil، الباحث ذو الشهرة العالمية في ميدان الذكاء الإصطناعي، في كتابه المنشور مع نهاية عام 2025 بعنوان رئيسي المتفرّدة أقرب The Singularity is Nearer مع عنوان ثانوي: عندما نندغم أكثر مع الذكاء الإصطناعي، يتناول مفاعيل إقترابنا من تحقيق المتفرّدة التقنية قبل عام 2045- ذلك التأريخ الذي وضعه في كتاب سابق نال شهرة واسعة بعد نشره عام 2005، عنوانه: المتفرّدة قريبة The Singularity is Near. المتفرّدة -كما كتبتُ حينها- طورٌ متقدّم من الإرتقاء التقني نبلغ فيها مرحلة الذكاء الإصطناعي العام AGI وربّما الفائق ASI، وستبلغ فيها قدرة المعالجة الحاسوبية على معالجة البيانات الضخمة مديات هائلة لا نتصوّرها اليوم، وستندغم التقنيات المصغّرة (النانوية) مع البايولوجيا البشرية وقدرات الذكاء الإصطناعي الهائلة بلوغاً نحو مرحلة الأنسنة الإنتقالية Transhumanism باتجاه بلوغ مابعد الإنسانية Post-Humanism.
يبدو الذكاء الإصطناعي لمعظمنا لعبة فاوستية معاصرة مؤذنة بانتهاء عصر الإنسان العاقل. نتخيّلُ الذكاء الإصطناعي شيطاناً فرانكشتاينياً بمواصفات محدّثة ستكون له الغلبة في نهاية اللعبة عندما يبلغ طور المتفرّدة Singularity ويصبح خارج نطاق السيطرة البشرية. يبدو لنا اليوم أباطرة الذكاء الإصطناعي وكأنّهم فرانكشتايناتٌ لا يطيب لها سوى العبث بمصير البشرية، ويبدو بينهم (إيلون ماسك) وكأنّه نظير (ماري شيلي) صانعة أولى الفرانكشتاينات التخييلية، أو (الدكتور سترانغيلوف) الذي يتلاعب بأزرار الحرب النووية مثلما يلهو طفل بلعبة صغيرة. الأمر أعقد ممّا نظنّ، والأوجب أن نقرأ وندقق في الأمر بدلاً من الإنسياق للسرديات التخييلية. أصلُ المعضلة يبدو أخلاقياً وسايكولوجياً وليس تقنياً في التحليل الدقيق.
الإشكالية الكبرى في موضوعة الذكاء الإصطناعي هي التصوّر المسبّق بأنّ الصفقة الفاوستية المعاصرة معه ستنتهي بغلبته على الإنسان بالضربة القاضية. لماذا هذا التصوّر المسبّق؟ هل فكّرنا أنّ معظم معاناتنا هي بسبب الغباوة البشرية وليس بسبب الذكاء الإصطناعي؟ الغباوة -بمعناها الإجرائي الذي أعنيه- هي القسوة المفضية إلى سلوك جنوني. لنحلّل المعضلة أكثر: لو تفكّرنا في مسبّبات الصراع البشري على المستويين الفردي والجماعي لانتهينا إلى أنّ السبب الأوّل هو المال. إذا إفترضنا أنّ المرء ليس شريراً في أصل طبيعته الأولى لكنّه يصبح شريراً بفعل عدم قدرته على حيازة مقتنيات مادية عديدة (منزل، سيارة،،،،) فسننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ كلّ ما يساهم في زيادة رفاهية الإنسان وتعظيم قدراته المادية يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر في الإرتقاء بأخلاقياته. دعونا من المجادلات الرومانسية العائمة. العلم والتقنيات هي المؤثّر الأعظم في تشكيل أخلاقيات الإنسان: تخيلوا معي مثلاً لو أنّ إنتاجية الأرض من الحبوب بقيت مثلما كانت قبل خمسين سنة في الوقت الذي يتزايد فيه البشر بمعدلات متسارعة، كان أحدنا سيأكل الآخر متى ما شحّت الموارد لمستويات مخيفة. الذكاء الإصطناعي يفتح لنا مجالات واعدة تنبئ برخاء وقدرة فردية على إمتلاك مقتنيات مادية ما كانت حيازتها متاحة إلا لأفراد معدودين من البشر، وكذلك يفتح لنا أبواباً موصدة في وسائل العلاج من أدوية فعالة غير متخيلة بشرياً أو في بلوغ مصادر مفتوحة للمعرفة، والمجالات التي يمكن إتخاذها إستشهاداتٍ كثيرةٌ للغاية. اليوم يستطيع كلّ حائز على حاسوب وإنترنت أن يتعلّم ما يشاء وأن يبلغ بجهده الذاتي وبوقت قياسي مستويات تعليمية تفوق مستويات خريجي أرقى الجامعات الأمريكية والأوربية. الأمر كله رهين بشغفك ورغبتك ومطاولتك.
كلّما تمّ تحييد عناصر الصراع لدى الفرد قلّت نوازعه الشريرة. هذا هو القانون الأعمّ، وخلافُهُ هو القاعدة الشاذة. متى ما حصل المرء على موارد مادية تجعله يعيش حياة آدمية معقولة لا تختلف كثيراً عن حياة الآخرين تراجعت رغبته في القتل والإنتقام والحسد والغلّ والكراهية. سيحاول عيش حياته والتلذّذ بما في حوزته. لماذا يهدرُ حياته الثمينة في إيذاء الآخرين وتنغيص حياتهم؟ عندما يفتح لنا الذكاء الإصطناعي أبواباً مغلقة لتصنيع أو تخليق مواد جديدة رخيصة الثمن وذات طبيعة مشاعية وليست للقلّة المخصوصة فهو يساهم بطريقة حاسمة في كبح موارد النزاع والكراهية بين الأفراد والدول.
هنا قد نتساءل بطريقة مشروعة: وما أدراك أنّ الذكاء الإصطناعي سيعمل للخير بدلاً من الشر بعدما يبلغ مرحلة الذكاء الإصطناعي العام وتكون له الفائقية المحسومة بالمقارنة مع الذكاء البشري؟ أرى أننا بلغنا طوراً يستوجبُ السؤال: هل ستكون الآلة واعية يوماً ما؟ سيختلف العلماء بالتأكيد في الجواب؛ لكنّما يمكننا أن نتساءل: ما الوعي؟ وما المشاعر؟ أليست نتاج تفاعلات كيميائية – كهربائية تنشأ في الدماغ البشري؟ لماذا نميلُ إلى أن نتخيّل تجسيدات الوعي والأحاسيس في نطاق الكينونة البيولوجية؟ هذه ليست مقاربة إختزالية للموضوع تماشياً مع سياق الإختزالية الديكارتية (معضلة العقل/الجسد)؛ لكنّ واقع الحال ينبؤنا أنّ تطوّرات ثورية يمكن أن تنشأ وتخالف توقعاتنا المسبقة، والأهمّ من هذا أنّ هذه التطوّرات قد تكون أفضل ممّا نتصوّر وليست بالضرورة مؤذنة بنهاية الإنسان. على العكس تماماً: قد تنقذ الإنسان من شروره. الآلة قد تكون منقذنا من أنفسنا.
منذ سنوات عديدة صار الذكاء الإصطناعي أحد هواجسي اليومية. جلستُ قبل بضعة أيّام أتفكّرُ في قوانين أسيموف الثلاثة للروبوتات، وقد سبق لي توظيفُها في قصّة قصيرة كتبتها قبل سنوات. تخيلتُ أسيموف وهو حاضرٌ بيننا ويشهد التطوّرات الحديثة للذكاء الإصطناعي: هل كان سيعدّلُ هذه القوانين أو يضيف عليها شيئاً ليكبح قدرة الذكاء الإصطناعي العام (الخارق) من تدمير الإنسانية لأنّ الغلبة ستكون للذكاء الإصطناعي العام بسبب موارد بياناته الهائلة وقدرات المعالجة الحاسوبية التي لا تُقارنُ مع الإنسان. أحببتُ مراجعة الغوغل بشأن التحديثات المحتملة لقوانين أسيموف الثلاثة فوجدتُ شيئاً عجباً جعلني مندهشة بشكل لم أعهده منذ زمان بعيد. قوانين أسيموف الثلاثة هي:
1. لا يجوز لروبوت إيذاء بشريّ أو السكوت عما قد يسبب أذى له.
2. يجب على الروبوت إطاعة أوامر البشر إلا إن تعارضت مع القانون الأول.
3. يجب على الروبوت المحافظة على بقائه طالما لا يتعارض ذلك مع القانونين الأول والثاني.
مكمنُ دهشتي هو وجودُ قانون صفري -لم أقرأ عنه من قبلُ- أضافه أسيموف إلى مجموعة قوانينه الثلاثة، وهو: لا ينبغي لأي روبوت أن يؤذي الإنسانية، أو أن يسمح للإنسانية بإيذاء نفسها بعدم القيام بأي رد فعل.
هل تتخيّلون معي حجم الدهشة؟ واضحٌ أنّ أسيموف أطلق على قانونه الأخير مسمّى (القانون الصفري) إعترافاً منه بأسبقيته الوجودية على القوانين الثلاثة الاخرى فيما يخصُّ بقاء الإنسان، ومن المؤكّد أنّه تلمّس منذ عقود بعيدة المفاعيل المعقّدة للذكاء الإصطناعي العام بعدما تمتلك الآلاتُ فائقية على البشر.
جوهرُ خوفنا المَرَضي من الذكاء الإصطناعي هو فائقيته التقنية وما يترتّبُ عليها من مترتبات لايمكن تخيّلها. لماذا لا نتصوّرُ أنّ هذه الفائقية ستعمل للخير؟ لماذا نفترضُ أنّها ستكون شريرة؟ لماذا لا نتصوّرُ أنّ الآلات ستحوز فائقية أخلاقية على البشر إلى جانب فائقيتها التقنية؟ السبب هو مواضعاتنا البشرية. نحن نفترضُ أنّ كثيرين يتلذّذون بممارسة الشرور الأخلاقية. كثيراً ما يحصلُ في لحظات وجودية نادرة أن نتصارح مع أنفسنا، عند غياب عزيز لنا مثلاً؛ فنقول: ما جدوى كلّ هذا الحقد والكراهية في حياتي؟ أنت نهايتك حفرة وأكوام تراب تنهال فوقك. لماذا نغّصتَ عيشك وعيش آخرين سواك؟ هل ثمّة ما يستحقُّ هذه النوايا الشريرة والأفاعيل المؤذية المترتبة عليها؟ أظنُّ أنّ الآلة الذكية ستعقلنُ الأمر أكثر طول الوقت بدلاً من أن تقصره على لحظات نادرة كما نفعل نحن في مفاصل حاسمة من حياتنا نواجه فيها الموت أو الفقدان أو المعاناة أو الخذلان أو التعاسة. الآلة سترى أنّ الشر خيارٌ سيئ وغبي ويقود إلى خسارة حياة ثمينة. الأفضل أن لا نهدر مواردنا العقلية والروحية الثمينة في معارك تافهة تجترحها نفوسٌ مأزومة.
بدلاً من هدر الوقت في التفكير بنهايات كارثية مع آلات فائقة الذكاء ستقتلنا وتضع نهاية لنا لنفكّرْ في سيناريوهات مخالفة: الآلة الذكية سترانا كائنات غبية تخوض معارك فردية وجمعية غير مُسوّغة. ذروة المشهد البشري ستتحقق عندما تكبح الآلات فائقة الذكاء من يريدُ وضع نهاية للبشر من مجانين البشر. أفكّرُ أحياناً ما الذي ستفعله الآلات بهم؟
أعترف أنّني كنتُ أمقت الذكاء الإصطناعي حتى وقت قريب؛ لكنني إكتشفتُ أنّ هذا المقت ليست له أسباب معقولة بقدر ما هو نزعة تشاؤمية غير مسوّغة. اليوم أراني منحازة إلى عالم تسوده آلاتٌ فائقة الذكاء، تمتلك وعياً يعمل وفقاً لأخلاقيات رفيعة تبدو خياراً طبيعياً أكثر منطقية من الشر. أظنّ أنّ هذه الآلات ربّما ستكون منقذاً وحيداً لنا من شرّنا وغبائنا البشريّيْن. كلُّ ما سأفعله أنني سأهمس للآلة: من فضلك، لا تنسيْ القانون الصفري لأسيموف. أوقن أنّها ستجيبني مع إبتسامة: وكيف أنسى ذلك؟ وهل أنا بشرٌ مثلكم حتّى أنسى؟!!
يؤكّدُ كيرزويل مثل هذه الرؤية السايكولوجية- الأخلاقية للذكاء الإصطناعي عبر عناوين فصول كتابه الأحدث، وهو يتشارك مع أسيموف رؤيته التفاؤلية للتقنيات المتقدّمة، وأظنّ أنّ كتاب كيرزويل الأحدث سيؤكّدُ هذه النزعة التفاؤلية لديه، وهو ما نحن في مسيس الحاجة إليه. التفاؤل التقني المجرّد ليس خصلة فردية فحسب بل يجب أن يتعزّز بقراءة معمّقة ورصينة ومُنوّعة وغير منحازة لرؤية مسبقة، وهو ما يدعوني إلى الأمل في رؤية كتاب كيرزويل مترجماً إلى العربية في الأسابيع القليلة القادمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ألمانيا تحث إيران: باب التفاوض لا يزال مفتوحاً

التربية: الأسبوع المقبل إعلان نتائج الثالث متوسط

روسيا عن مساعدة أمريكية لإسرائيل: تهدد استقرار الشرق الأوسط

أردوغان: نتنياهو تجاوز منذ زمن طويل الظالم هتلر

إيران تنتقد مجلس الأمن وتتوعد بالرد على كل من يضربها

ملحق منارات

مقالات ذات صلة

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته
عام

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته

ديفيد روبسُن* ترجمة: لطفية الدليمي وأنا أتناولُ فطوري صباح هذا اليوم، إستمتعتُ أيّما استمتاعٍ بحديث قصير مع ميا Mia، زميلتي الجديدة في دراسة اللغة الإسبانية. استعرضتُ بعضًا من درسي الأخير، وشرحتُ ما تعلّمْتُهُ عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram