إسماعيل نوري الربيعي

حكاية (حمد شابع فشك وحمود شابع صيت) غنية وحافلة، تُجسد عناصر رئيسة من القيم العربية والبدوية التقليدية، كالشرف والشجاعة والولاء للعائلة والعواقب الاجتماعية للجبن. رغم قصرها، إلا أنها تحمل في طياتها ملاحظات عميقة عن الهوية الثقافية، والمعضلة الأخلاقية، والعمق العاطفي للفقد والفخر في المجتمعات القبلية. تدور الأحداث في قرية نائية يُفترض أنها تُمثل المجتمع البدوي ما قبل الحداثة - وتدور حول شقيقين وأمهما. يُمثل حمد وحمود، الشقيقان، فضيلتي الشجاعة والجبن. الوصفان بحد ذاتهما معبران؛ شبع فشك (طلقات) يُمثل القوة والشجاعة، بينما (شبع صيت) يُمثل الضعف أو الفشل. هذه الأوصاف ليست مجرد كلمات للتداول، بل هي إعلان عن الشخصية والسلوك في ثقافة تُعلي من شأن الشرف والسمعة. وجود الماشية - الإبل والأغنام - يُبرز الأهمية الاقتصادية والثقافية للرعي في المجتمع البدوي. فالثروة الحيوانية ليست ثروة فحسب، بل هي أيضًا مكانة اجتماعية، وبقاء، واستمرارية بين الأجيال. لذا، عندما يحاول الغزاة نهب قطعان الإخوة، لا يُمثل ذلك تهديدًا ماديًا فحسب، بل تهديدًا وجوديًا، يُهدد رجولتهم وكرامتهم.
حمد - الأخ البطل
حمد هو المقاتل البدوي النموذجي. رفضه نهب ماشيته - "لن يأخذوا قطعة واحدة من الصوف إلا على جثتي" - هو موقفٌ من الفخر والاعتزاز بالنفس. يختار مُقاتلة الأعداد الكبيرة، حتى أنه يُجند شقيقه حليفًا له. استشهاده في ساحة المعركة دفعه إلى الاستشهاد، راسخًا بذلك فكرة أن الموت بشرف أفضل من حياة العار. أفعال حمد تُجسّد القيم البدوية الأصيلة: الشجاعة والتضحية بالنفس، والولاء للعشيرة والعائلة. كلماته الأخيرة - "أعرف كيف أهتف، لكنني لا أريد أن أهتف" - تُعبّر عن فهم عميق لمعنى الشجاعة الحقيقية: الفعل، لا مجرد الهتاف. يخترق هتاف حمود الفارغ ويدعو إلى المشاركة الحقيقية.
حمود - الأخ الجبان
على النقيض من ذلك، يُجسّد حمود انهيار هذه المبادئ. تصرفاته بالاختباء أثناء الهجوم تجعله جبانًا فعلًا ونية. ورغم محاولته الانتصار لاحقًا بإعادة جثث قطاع الطرق الخمسة القتلى، إلا أن فعله كان انتهازيًا أكثر منه انتصارًا. يُشاد بانتصاره عند عودته إلى المنزل علنًا، لكنه في النهاية يتبين أنه كان فارغًا، كما كشف رد فعل الأم. يُظهر حوار حمود نهجه النفعي، إن لم يكن أنانيًا. فهو يُفضل الاستسلام للغزاة، حرصًا على البقاء لا على المعتقد. ردّه "أعطوهم الماشية وسننجو" على نداء حمد للاستغاثة يعكس عدم اكتراثه أو تردده في القتال من أجل شرف العائلة. كما يُبرز هتافه اللاحق من مكان آمن حساصيت ه الأخلاقية.
الأم - صوت الحكمة والرأي
الأم هي ضمير الحكاية. فبينما يحتفل أهل القرية بعودة حمود، لا تُحزن ولا تُحتفل. صمتها يُعبّر عن الكثير. وإذا سُئلت، تُصدر حكمًا صارمًا: (حمد شابع فشك وحمود شابع صيت)، هذه العبارة زاخرة بالمعاني. فهي تُقرّ بموت حمد جسديًا وموت حمود المجازي من أجل الشرف. إنها تُدرك أن البطولة ليست استعراضًا أو شعبية، بل نزاهة وتضحية. كان إدراكها فريدًا وسط حماسة الحشد الفارغة، مما يوحي بأن القبول الاجتماعي ليس بالضرورة حقيقة أخلاقية. في قلب الحكاية صراع بين الشرف والعار. يرتبط الشرف، في الثقافة البدوية، بسلوك الرجل، أي الدفاع والقيادة. اختيار حمد القتال يحفظ شرف العائلة حتى لو كلفه ذلك حياته. أما جبن حمود، على عكس ذلك، فهو مصدر عار - ليس فقط لنفسه، بل للعائلة بأكملها. ومع ذلك، لم يُلاحظ أهل القرية ذلك، مرحبين بانتصار حمود الظاهري دون أن يُبدوا أي استغراب لما حدث.
تُقدم الحكاية رصدًا للتناقض بين الرأي العام والواقع الشخصي. فبينما يحظى حمود، بطل البلدة، بإعجاب العامة، تُدرك الأم حقيقة الحدث. صمتها يُمثل تحديًا للمديح المُضلّل. وهذا يعكس الصراع المُحتمل بين الضمير الشخصي والرأي العام، مُراعيًا أهمية الحقيقة الداخلية بدلًا من الموافقة الخارجية. لم يُصوَّر موت حمد على أنه مأساوي، بل كان نهايةً نبيلةً لحياةٍ فاضلة. تبقى ذكراه خالدةً مُتجليةً في صورة الشجاعة والتضحية. حمود قادرٌ على العيش لفترة أطول، لكنه أضعف روحيًا. تكشف أقوال الأم أن حمد مات بشرف، بينما يعيش حمود في عار. تُسلّط علاقة الأخوين الضوء على الولاء والخيانة كموضوعين رئيسيين. يتوسل حمد طلبًا للمساعدة، مُتوقعًا التضامن. إن إنكار حمود ليس مجرد قلة شجاعة، بل هو إخلال بالمسؤولية العائلية. إن انهيار الثقة بين الإخوة يُمثل مخاوف أوسع نطاقًا بشأن التكامل والمسؤولية داخل القبيلة والعائلة.
بنية السرد ورمزيته
يُبنى السرد وفق الصيغة الثلاثية التقليدية: الإعداد (رعاية الإخوة للماشية)، والصراع (الغارة)، والحل (العواقب). يُتيح الحوار توصيف الشخصية وإدراك الموضوع. كل تفاعل بين الأخوين يُخبرنا بشيء عن هويتهما وما يُمثلانه. رمزيًا، تعني الماشية شيئًا أعظم من مجرد ممتلكات، فهي رمز للحياة والتقاليد والمستقبل. ليس المُغيرون مجرد لصوص، بل مُخربون لاستقرار الأسرة والمجتمع. ساحة المعركة أيضًا مكان لاختبار الأخلاق حيث تُفرض الشخصية على العلن. تمثل الخيول التي تُحمل عليها الجثث المكانة والكرامة. بتغطية جثة حمد بحصان، يُحاول حمود إظهار الاحترام بعد الموت، ربما بدافع الالتزام أو الشعور بالذنب. لكن صمت الأم يُبطل أي محاولة للتعويض. حكاية حمد شابع فشك وحمود شابع صيت " تتجاوز مجرد حكاية شجاعة وجبن. إنها استكشافٌ مُعقّد للخيارات الأخلاقية، والقيم المجتمعية، وسلطة حكمة الأم الراسخة. من خلال التناقض بين الأخوين ورد فعل المجتمع، تُدين الحكاية الإعجاب الأعمى بالنجاح، وتشجع القارئ على التفكير فيما وراء القضايا السطحية المتعلقة بالأخلاق والهوية والتراث. وأخيرًا، تُكرر كلمات الأم المحتضرة أعظم رسالة على الإطلاق: القيمة الحقيقية لا تُقاس بالهتافات، بل بتميز الشخصية. في عالمٍ يخلط بسهولة بين الشهرة والأخلاق، يبقى حكمها الصامت شاهدًا أبديًا على قيمة النزاهة، حتى في مواجهة الضغط المستمر للطاعة.