فيرونيك تشابورين
ترجمة : عدوية الهلالي
يبدو أن دونالد ترامب بدأ منذ الأشهر الأولى من ولايته في تفكيك القوى المضادة في الولايات المتحدة. وفي مواجهة هذا الهجوم، أظهر المجتمع المدني الأميركي قدرة غير مسبوقة على الصمود. لكن المخاطر تجاوزت الحدود، فمن خلال تجميد جزء كبير من المساعدات الإنسانية من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أجبر ترامب العديد من المنظمات غير الحكومية على تعليق أنشطتها. ومع ذلك، لا تتمتع جميع الدول المتضررة بنفس القدرة على الصمود. وتعيد هذه الديناميكية دور المجتمع المدني باعتباره السلطة الثالثة، الضامنة للتوازنات الديمقراطية، إلى قلب النقاش.
ففي غضون 100 يوم فقط، شن دونالد ترامب هجومًا تاريخيًا على ركائز التقدم الأمريكي –أي مايعادل 143 أمرًا تنفيذيًا بين 20 كانون الثاني و30 نيسان 2025. وفي يومه الأول، ألغى مسؤولي التنوع في جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية وعلق تمويل سياسات الإدماج - وأمر الولايات المتحدة بالانسحاب من اتفاقية باريس - وأحيا سياسات مكافحة الهجرة، وأنشأ وزارة جديدة لكفاءة الحكومة برئاسة إيلون ماسك. وترتكز هذه الاستراتيجية، المستوحاة من البرنامج المحافظ "مشروع 2025"، على التحول السريع والعميق للدولة الفيدرالية.
وفي مواجهة هذا التسارع الاستبدادي، يفرض المجتمع المدني الأميركي نفسه باعتباره القوة المضادة الأكثر تنظيماً، وذلك بفضل "قوته الناعمة" المؤسسية.ففي الخامس من نيسان، جمعت حملة "ابتعدوا عنا" ما بين 3 إلى 5 ملايين متظاهر في جميع أنحاء البلاد، بدعم من أكثر من 150 منظمة. وتم تسجيل أكثر من 2000 احتجاج في شباط 2025، وهو ضعف العدد المسجل في عام 2017. وفي الوقت نفسه، أوقفت بالفعل العديد من قرارات الائتلاف القانوني الأوامر التنفيذية. كما تم إطلاق حملات تعليمية مثل حرية التعلم ومبادرات منظمات LGBTQ)) لمواجهة الهجمات على تاريخ الأمريكيين من أصل أفريقي ومبادرات التنوع.
إن هذه القدرة على الصمود، التي ترتكز على البنية التحتية المتينة، توضح الدور الأساسي للمجتمع المدني باعتباره قوة مضادة للديمقراطية. لكن هذه المقاومة تواجه باستراتيجية إلغاء القيود التنظيمية على مستوى النظام. وتحذر منظمة "أسواق أفضل" غير الحكومية من تفكيك الضوابط المالية وتعزيز الرأسمالية المواجهة. وقد أدى الهجوم على النقابات، الذي وثقه معهد السياسة الاقتصادية، إلى إلغاء الوساطة الاجتماعية، والتراجع عن لوائح السلامة، وسياسات مكافحة التمييز، والميزانيات المخصصة لمكافحة العمل القسري. وعلى المستوى الدولي، يترافق هذا المنطق مع انسحاب تدريجي من التحالفات، ولا سيما حلف شمال الأطلسي، مما يضعف التوازنات الدبلوماسية.
إن قدرة المجتمع المدني على الصمود ليست عالمية.إذ بتجميده المفاجئ لأكثر من 40 مليار دولار من المساعدات الخارجية، تسبب دونالد ترامب في أزمة إنسانية عالمية. وقد أدى هذا التجميد، الذي يؤثر بشكل مباشر على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية - القناة الرئيسية للمساعدات الأميركية (42% من المساعدات العالمية) - إلى حرمان ملايين الأشخاص من الوصول إلى الرعاية الصحية أو الغذاء أو التعليم، وأجبر آلاف المنظمات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان على تعليق أنشطتها.
لقد أدت سياسة الانسحاب هذه، أو ما يسمى بـ"تأثير ترامب" بحسب منظمة العفو الدولية، إلى تسريع تراجع الحقوق الأساسية. وفي تقريرها لعام 2025، حذرت المنظمة من تراجع عام في حقوق الإنسان، فمن خلال كسر مبادئ التعددية، يعمل ترامب على إضفاء الشرعية على القمع الذي تمارسه الدول على نطاق عالمي. فمن بنغلاديش إلى موزمبيق، صعدت عدة دول من القمع الداخلي، مستغلة ضعف المنظمات غير الحكومية وشبكات حقوق الإنسان.
وعلى الصعيد العالمي، فإن الخفض المعلن في المساعدات الإنسانية لا يؤثر على جميع البلدان بالتساوي. والبيانات واضحة: فكلما انخفض مؤشر الديمقراطية في بلد ما وكلما كان حيزه المدني محدودا، أصبح أكثر عرضة لانسحاب الدعم الخارجي. ويُظهر معهد V-Dem، الذي يقوم بتقييم الديمقراطية عبر عدة أبعاد (الحريات المدنية، والمشاركة، والمساواة)، أن البلدان التي يقل مؤشر الحريات المدنية فيها عن 0.3 لديها أيضًا أعلى معدلات انتهاكات حقوق الإنسان. وتتميز هذه الدول، التي تصنف في كثير من الأحيان على أنها "دول استبدادية انتخابية"، بتهميش المجتمع المدني، واضعاف نظام العدالة، وقمع وسائل الإعلام.
وعلى نحو مماثل، تشير تقديرات منظمة مراقبة سيفيكوس، التي تقيس حالة المجتمع المدني العالمي، إلى أنه في عام 2023، كان هناك 118 دولة لديها مجتمع مصنف على أنه "مقموع" أو "مغلق". ويمثل هذا أكثر من 30% من السكان المحرومين من حرية تكوين الجمعيات أو التجمع أو التعبير. وفي هذه السياقات، فإن خفض المساعدات الإنسانية يعني انهيار شبكات الأمان وإضعاف المجتمع المدني. ومن المؤكد أن الديمقراطيات مثل الولايات المتحدة أو فرنسا تتمتع بالمرونة المدنية ــ حتى وإن ظلت هذه المرونة قابلة للكمال في الحالة الفرنسية.
إن قوة المجتمع المدني تحدد قدرته على امتصاص الصدمة. وفي البلدان التي يكون فيها مؤشر الديمقراطية منخفضا والمجتمع المدني غير منظم بشكل جيد، فإن خفض المساعدات الإنسانية قد يصبح بمثابة حافز للأزمات السياسية والاجتماعية. هذه الديناميكية موثقة جيدا. وقد أظهر عالم السياسة توماس كاروثرز (من مؤسسة كارنيغي) أن الأنظمة الاستبدادية تستهدف بشكل منهجي المنظمات غير الحكومية والمؤسسات والنقابات قبل مهاجمة وسائل الإعلام أو نظام العدالة. وفي كتاب "كيف تموت الديمقراطيات"، يوضح ستيفن ليفيتسكي أن تآكل المؤسسات الديمقراطية غالباً ما ينطوي على تهميش المجتمع المدني بشكل تدريجي.
وفي مواجهة هذا الهجوم العالمي ضد القوى المعاكسة للمجتمع المدني، تتاح لفرنسا وأوروبا الفرصة للتأمل: فكيف يمكننا أن نعطي المجتمع المدني الوسائل اللازمة لممارسة دوره بالكامل كقوة ثالثة؟ لابد ان يكون ذلك من خلال إعادة النظر في تمويل المنظمات غير الحكومية، وترسيخ الحق في مناصرة المواطنين، وتدريب أصحاب المصلحة المعنيين، وتشجيع العمل الخيري، وتعزيز التحالفات بين المنظمات غير الحكومية والجامعات ووسائل الإعلام - ومن خلال تولي الدور الاستراتيجي "للقوة الناعمة" كرافعة للاستقرار الديمقراطي.