TOP

جريدة المدى > عام > حوار مع الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا

حوار مع الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا

نشر في: 25 مايو, 2025: 12:02 ص

كتابة وحوار: أسعد الجبوري
وجدناها واقفةً أمام مرآةٍ عملاقة، وهي تلامسُ وجهها بتلك الأنامل الرقيقة تحت مصابيح كبيرة، فيما وقف إلى جانبها نسرٌ أسود على صولجان مرصع بالذهب والمجوهرات. كان الوقت ليلاً يفرضُ فيه الهدوءُ سطوته على كافة الأحياء في المنطقة المفتوحة.
ما أن اقتربنا من الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا،حتى التفتت إلينا مبتسمةً،وهي تمدُ إلينا يدها مصافحة. بعد ذلك بقليل، حلق النسرُ فوق رأسها، بينما تناولت هي ذلك الصولجان المرصع،بعد أن أمرت حراسها بفتح باب منزل كبير.
دخلنا مندهشين بروعة المكان وسحره وبموجوداته وتصاميمه الهندسية التي توحي بشيء من الحزن.إلا أن الشاعرة سرعان تبتسمُ قائلة:تفضلوا بالجلوس. فهذا المنزلُ مكان إقامتي المؤقتة الآن.
آنذاك تبادلنا الأحاديث المختلفة عن الجنة والنار والغرام والشعر والديكة حتى فتحنا مع آنا الحوار. فسألناها على الفور دون تردّد:
■هل كانت ولادة آنا أخماتوفا في روسيا بخطأ فادح؟!
- ربما. ولكن لولا ذلك الخطأ الافتراضي، لم يقدني قدري إلى الشعر، فأكون ثرية بكل تلك الآلام.
■ هل تشيرين إلى آلام الشعر المُثقل بكوابيس الإرهاب الحديدي الذي سبق وأن رفرف فوق رأسك قديماً؟
- ومن غير حديد ستالين يرفرفُ لو أراد؟!
لا أحد. كأن ذلك الديكتاتور تربص بي منذ أن ولدتُ في بلدة بلشوي فونتان إحدى ضواحي مدينة أوديسا الواقعة على البحر الأسود، ليلاقيني في فترة تبلور صوتي داخل رحم الشعر الروسي في بدايات 1911.
■ هل تدينين بشيء لزوجك الأول الشاعر الروسي نيقولاي غوميليف فيما يخص التجربة الشعرية؟
- كان نيقولاي غوميليف حبي الأول الذي قام معي بتربية الشغف المتبادل على جميع طرقات جسدينا الملتهبة العاصفة. خاصة وأنه كان مُنظر حركة ((مُحترف الشعراء)) المناهضة للشعر الرمزي.
■ ولكنكما انفصلتما بعد ثمانية أعوام من الزواج. هل ما حدث بأسباب سياسية؟
- تلك فترة زواج كافية. فقد شعرتُ أن تربتي تحتاج إلى الإصلاح الزراعي قبل أن أدخل مرحلة البوار الأيروسي.
■ وبعد سنتين تم إعدام طليقك نيقولاي غوميليف بتهمة معاداة الثورة البلشفية. أليس كذلك؟
ـــ ذلك ما حدث لكتّاب الحداثة ومنظري الأفكار المتطايرة خارج الصندوق البلشفي.كان وضعنا النفسي والأدبي في الأربعينات صعباً وقاسياً ومذلاً. زوج يُعدم. وأبنٌ (ليف) ينفى إلى سيبيريا. وأنا أخرج من السجن طائعةً في لينينغراد بعد سبعة عشر شهراً، لأرفع صوتي في الإذاعة، مشجعةً الجند على مقاومة الغزو الألماني لبلادي، وكذلك لأقرأ القصائد على الجرحى في المستشفيات.
■ ولكنكِ طُردتِ من اتحاد الكتّاب السوفييت على الرغم من قصائد المديح بحق الديكتاتور الحديدي ستالين؟
- لقد سقطتُ في أمراض الواقعية ووحلها الأدبي، وكان علىّ أن أقفز فوق الحبال، للتعلق ولو قليلاً بالأشكال التجريدية، أو تلك التي تعتمد على تكريس مواد المخيّلة في بناء النصوص وتكوين تصاويرها البارعة الجديدة.
■ لماذا جعلت نصوصك أسيرة لطقوس بوشكين وباتيوشكوف وآخرين من قائمة الأسلاف السوفييت؟
- كنت شاعرة شعبية، وكانت كلّ شوارع العالم، تمرُ بين حروفي ضمن التعابير البسيطة التي تنتمي إلى قوة نفوذ الإيقاع الخاص بالناس المضطهدين ولغاتهم المتكسرة على الألسن وفي أعماق القلوب الحزينة.
■ ولكن على الرغم مما لَحِقَ بكِ من اضطهاد سياسي،استمرت محركاتُ العواطف تدور في أعماقك دون توقف. كأن المآسي هي إيقاعك الشعري. أليس ذلك غريباً؟!!
ـــ لقد تطبعنا بالعهد الستاليني. ولم يكن أمامنا إلا الصمت أو الانتحار أو الهجرة.وأنا رفضت مغادرة روسيا، لأنني نباتٌ لا يستطيع فراق جذوره المغروزة بالتربة الروسية.
■ فعلت ذلك على الرغم من حملات الانتقاد التعسفية ضدّكِ شخصياً، كأرستقراطية وصوفية وضد شعرك ((المنفر للشعب السوفييتي)) على حدّ تعبير الدعايات المناوئة لك!
- كنت مثل مدخنة تتصاعد منها الآلام بصمت. فقد زُجّ بي في سجون ستالين، الأمر الذي جعل الأنثى التي أنا في جسدها، وكأنها سفينة جانحة توشك على الغرق.
■ هل تعتقدين بأن قصيدتك"قداس جنائزي" تختزلُ الوجع التراجيدي للناس خلال فترة القهر الحديدي.أم كانت طرازاً شعرياً من الغناء النفسي الفَوّار بالأرجوان.
- "قداس جنائزي" ليست قصيدة. كانت سجناً للأرواح.
■ بمعنى إنها كانت قصيدة الذّرْوَة. قصيدة الشجاعة بكامل حذافيرها. الشجاعة التي قلتِ أنتِ عنها: ((كلمة روسية عظيمة، تلاءم أغاني أحفادنا، نقية وهي تجري على ألسنتهم، حرة)).
ـــ بالضبط. فتلك كانت قصيدة روسيا بكامل طبقاتها الجيولوجية.
■ كيف للشاعر أن يلتحم بالموت؟ وإذا كان لا بد من ذلك، فمن أجل ماذا يفعل ذلك؟
- كنت أشعر بأن الموت عبارة عن رادار في داخلي، يدير رأسهُ إلى حيث يتحرك الموت خارج الجسد أو على مقربة منه. لم ينل مني خوفٌ من وراء عمل مثل ذاك، ((كلُّ شيء جاهز للموت، وأفضل مَلاذ للمقاومة على هذه الأرض هو الحزن، وما سيمكث هي الكلمة الحرَّة)).
■ هل كلّ ذلك جرى على حساب الحبّ؟
- لا أبداً. لم أترك جسدي كالجدار العاري في الهواء، يتآكل بالرطوبة والتعفن والتشقق والانهيارات المتلاحقة في بنيته. الحب مركز قوة الجسد، وباختفاء تلك القوة،نكون قد أحلنا أنفسنا على التقاعد إلى الأبد. وأنا لم أفعل ذلك بشكل شخصي.
■ هل بزيجاتك الثلاث، الزوج الأول أعدم سنة 1921 لنشاطاته "المعادية" للثورة البلشفية، والزوج الثاني عالم الاشوريات فلاديمير شيليجكو ثم الباحث الأدبي نيقولاي بونين (توفي في معسكرات الأشغال الشاقة). استطعتِ الحفاظ على جسدك من التَلَف؟
ـــ ليس بالجنس وحده يمكن تجديد الجسد، بل باللغة كذلك. اللغة التي تدخل جسدك، وتطهره من التصحر بفيضانات الشعر.
■ هل تعتقد آنا أخماتوفا بأن الشِعرَ لحمٌ إلهي، لا يضرّهُ تعفنٌ أو فسادٌ؟
ـــ لحمٌ إلهي مُقَطرٌ كالفودكا. هذا ما يجب أن يتوقعه كلّ عاشق وعاشقة. فالشعرُ لا يُؤَلفُ بالكتابة وحدها، بل يُؤلف تأليفَ الجَمَرات في السرير.
■ هل من أجل ذلك الاعتقاد كتب - غيل براستنيتزار – عن جمالك ممتدحاً:
((تبدو وهي بيننا وكأنَّها العذراء، تحمل بين يديها أوجاعها بابتسامتها الفاترة وحضورها المهيب وجمالها المتشامخ. ولا نراها في لوحات عندما أدركها الهرم وإنَّما في رسومات تظهر جمالها الآسر في سنواتها العشرين. لقد كانت في تلك السنِّ تجسيدًا للجمال المحض العصيِّ على الذبول؛ ولم يفلح الزَّمن حيث أخفق الجلاَّدون... النَّيل من هذا الجمال)).
- لم أرَ نفسي أيقونةً تستحقُ العِبَادة أو التّبجيل وكلّ تلك المدائح،بقدر ما أنا شاعرةٌ وجدت نفسها ذات يوم في حديقة حيوانات الاستبداد. كان وجودنا مرتبطاً بالصمت وحسن السلوك وعدم التوحش والاستغناء عن الكتابة ليس غير.
■ لماذا معاداتك للشيوعية. هل لأنك من عائلة برجوازية فقط؟!
ـــ كنتُ سريعةً وسعيدةً في مسألة ما يُسمى بتغيير الثياب، ونجحت إلى حد ما بعدم لصقَ الفستانُ الأحمر طويلاً على جسمي. أنه لا يليقُ باللحم الذي اسمهُ آنا أخماتوفا. هذا كلّ ما في الأمر.
■ يبدو أنك لست سريعة بتغيير ثياب الأيديولوجية وحدها،بل وبنزع الثياب الأخرى للإيقاع بالعشاق، ممن كنت تتربصين بهم، ليلتهموا الطعم من صنارتك بكل ارتياح.
- لم أجد مانعاً يحول دون ذلك. فما فعلته أنوثتي بالآخرين،كان شيئاً يتعلق بالغرام الحُرّ المتحرر من التوابع وأنظمة القمع الاجتماعي المتعدّدة. ولكن عليك تذكُر،بأن الجسدَ، قد لا ينزعُ ثيابك عنكَ مع من لا تشتهيه الروح، حتى لو نمتَ عارياً معه
■ هل كان عشاقك من فئة الشعراء فقط يا آنا؟
- لا.كنت أغوي الرجال على المزاج والصّدْمة، ولا أحْرم نفسي من شيء. كانوا كثر إلى حدّ أن رحمي لم يتحمل المزيد من الزوابع التي حرمني منها الحديديون.
■ ثمة من يُعلق على شعرية آنا أخماتوفا قائلاً: أنها ((متخلِّصة بسرعة من الزخرفة والبهرجة البالية للرمزيَّة شادت آنَّا أخماتوف لغة شعريَّة قائمة على إيقاعات رشيقة ومرنة وقافية ثريَّة وخاصَّةً على مفردات مجرَّدة وشفَّافة؛ ويبدو بناء هذه اللغة حقيقة آسرًا من فرط طراوته ونقائه، إذ تنهل في كتابة الشعر من معين أنفاسها الشفيفة والمتسامية. وستعرض آنَّا عن السحر المصطنع الذي يعتمده شعراء آخرون (إسّين، بلوك، ماياكوفسكي...)، ليبقى صوتها متفرِّدًا أصيلاً وساحراً)).
- أنا متأسفة لأمرٍ عظيم، لم أفعله في حياتي،إلا وهو تحديث اللغة. كنت مشغولة بتحرير جسدي من عبودية الزمان والمكان. ومرة أخرى، كنت مُخَدرّة بالتقاليد الرسمية للشعر الروسي،ولم أفتح أبواب المخيّلة على مصراعيها،لأكتب بغير تلك الطريقة التي وضعني بها القدرُ كمناوئة للشيوعية وحسب.
■ بعد أن مُنعتِ من نشر قصائدك، كان اتجاهك نحو الترجمة، لتشمل أدب بوشكين وفيكتور هيغو، وطاغور، وجياكومو ليوباردي، وشعراء من كوريا وأرمينيا وقصائد عاطفية من مصر وسواها، إلى جانب كتابة سيرة الشاعر ألكسندر بلوك الذاتية.لماذا اخترتِ الترجمة دون الأعمال الأخرى؟
- عملتُ ذلك من أجل لقمة الخبز بالدرجة الأولى. وثانياً،لأنني أردتُ الانغماس أكثر فأكثر بأرواح النصوص الخاصة بشعراء وكتّاب عالميين، لتمتين تجربتي الشعرية، وجعلها أشدّ انهماكاً بالقضايا المختلفة للحضارات التي تقع وراء جدران روسيا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram