TOP

جريدة المدى > عام > جيسون ميتيل والأقلمة السردية

جيسون ميتيل والأقلمة السردية

نشر في: 25 مايو, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
لا شك في أن حلقة الشكلانيين الروس كانت قد اهتمت بدراسة البنية أكثر من المعنى، بيد أن ما في السرد من مرونة يجعل كلا من البنية والمعنى مجالا واسعا لطرح الأسئلة واستكشاف هياكل سردية غير نصية مختلفة وجديدة تثير ردود أفعال ثقافية بسبب طبيعة حبكاتها كما في المسلسلات التلفزيونية والمسرحيات الميلودرامية. ومن المهم في فهم النظرية السردية توسيع نطاق دراسات الأقلمة من ناحية ما يجري على النص الأصلي من عمليات تجعله نصا مؤقلَما أو معدَّلا. فالسرد – بحسب ميتل- مكون عالمي في الثقافة البشرية ومن الواجب أن نتوقف عنده للتفكير في ما تعنيه مصطلحاته بشكل دقيق، ومنها مثلا مصطلح( القصة) و( الخطاب) وما تتضمنه استراتيجياته من عناصر تسمح بسرد القصة الواحدة بطرق لا حصر لها مما يؤثر بشكل كبير في المعنى المستخلص من سردها. لكنها تظل كما هي بشخصياتها وما تمر به كل شخصية من مواقف وأمكنة وأزمنة في حين أن التغيير الجذري يحصل في الخطاب من ناحية تبدل التقانات والمنظورات. مما يؤثر في طريقة تلقي القصة ومقدار تأثيرها الثقافي في القارئ. من هنا يكون التمييز بين القصة والخطاب أساسا مهما من أسس فهم العملية السردية.
هذا ما يتناوله الأمريكي جيسون ميتيل في كتابه( نظرية السرد والأقلمة)2017. ومن الملاحظ على مصادره السردية أنها أمريكية فهو حين فرَّق بين القصة والخطاب أحال على سيمور تشاتمان، وأهمل الإحالة على جيرار جينيت الذي هو سابق في طرح هذه الموضوعة. وجاء في إحالة ميتيل على تشاتمان( أن القصة تعني ما يتم تصويره في السرد. أما الخطاب فيعني كيفية سرد القصة).
وما يراه ميتيل مهما ويتطلب الانتباه هو أن تحليل السرد داخل الفيلم ينبغي أن يكون متوازيا ما بين عمل كل من القصة والخطاب والوسيط مع الأخذ بنظر الاعتبار التقانات التي بها تتحول مكونات السرد من شكلها الأصلي قصة أو رواية إلى شكلها المؤقلم في فيلم أو رسوم متحركة أو لعبة فديوية. ويرى ميتيل أن أهم الاختلافات ما بين السرد الروائي وسرد وسائل الإعلام المرئية مثل الأفلام والتلفزيون تكمن في طريقة التعامل مع الزمان على مستوى الوسيط؛ فالزمان في القصة/ Fabula يسير بشكل خطي تتابعي. أما الزمان في الخطاب/Sujet فيسير بشكل سببي تقديما وتأخيرا، وقد يتباطأ أو يتسارع غير أن الزمان في الفيلم يسير بمعيارية مختلفة تشتمل على الحذف والانتقاء فتتفاوت إيقاعية حركته استرجاعا واستباقا. وفي السابق كان المشاهدون يتلقون السرد في جلسة واحدة بإيقاع ثابت يحدده صناع الأفلام. وكانت للفيلم هيكلية زمانية صارمة لكن مع التطور في صناعة أقراص DVD وخدمات البث الفضائي في العقد الأول من القرن الحالي تغيرت هذه الهياكل وصارت مرنة. وغدا بإمكان المشاهدين إيقاف زمان الفيلم أو إعادة مشاهدته أو تخطي بعض فقراته. وهذه المرونة في المشاهدة هي أقرب إلى الطريقة التي بها يتعامل القراء مع كتاب قصصي أو روائي حيث الزمان تحت سيطرة القارئ. ومع ذلك فإن الأفلام ما زالت تحافظ في عملية تلقيها على معايير أكثر انضباطا.
والمسألة التي عندها يقف ميتيل ويوليها اهتماما هي ضرورة التمييز بين دراسات الأقلمة والدراسات السينمائية؛ ذلك أن تحليل الأفلام يحتاج فهما معمقا في النظرية السردية وبشكل علمي يخالف النهج التقليدي الذي اعتادته الدراسات السينمائية أي الاهتمام بتطبيق نظريات السينما وطرق كتابة السيناريو بعيدا عن المرونة التي تمتاز بها دراسات الأقلمة كونها تتجاوز الأحادية والتجريدية، مستكشفة بشكل عملي السرد في تقاطعه مع السينما وموسِّعة معايير المقارنة من مجرد عرض الروايات أو المسرحيات على الشاشة إلى البحث في المصادر والأصول أو التقاليد والتقانات والوسائط والنظريات ومنها نظريات الإدراك التي تهتم بالبحث في دور الجمهور في تلقي الفيلم وفهمه وكذلك نظريات المؤلف في السرد، ولها أبعاد مؤثرة وهي تختلف عن نظرية المؤلف في السينما بصفته مخرجا أو كاتب سيناريو فضلا عن المؤلف الضمني أو الافتراضي.
وفي مدار طرح هذه النظريات، يفرد ميتيل مساحة خاصة من كتابه لمفهومي( النص الأصلي) و(النص المؤقلم) وكيف يمكن للأخير أن يحافظ على روح الأول في السرد السينمائي. ومما يراه ميتيل أن النص الأصلي قد يكون نقيا جدا ما يجعل عملية أقلمته بالفيلم صعبة، لأن روح السرد مدمجة فيه بشكل جذري، ما يتطلب عملا خاصا عند أقلمته. الأمر الذي يقتضي إعطاء( الأولوية للمصادر الأدبية لاسيما الرواية والمسرحية عند أقلمتها بالأفلام بعيدا عن الوسائط الأخرى كالتلفزيون والكتب المصورة والألعاب). من هنا تساعد الأقلمة الناقد الأدبي في بناء خبرة أكاديمية أولا وثانيا تضفي الشرعية على عمل السينما بالنسبة إلى أولئك الذين يشككون في جدوى دراسة الثقافة الجماهيرية لاسيما في بُعدها التجاري. وثالثا تردم الأقلمة الفجوة بين الدراسات الأدبية ودراسات السينما. ورابعا تجاوزها نظرية التناص أو التداخل النصي التي تنظر إلى النصوص في سياقاتها الثقافية بعيدا عن الأصول وهو ما يراه روبرت ستام إساءة إلى الأدب إذ لا بد من التحيز إلى التاريخ الجمالي للنصوص الأدبية عند أقلمتها بالوسائط الجديدة. وفي هذا رد اعتبار أخلاقي للنص الأصلي بوصفه متفوقا بطبيعته على الأقلمة.
وواحدة من مسائل دراسات الأقلمة هي مسألة الولاء من ناحية المحافظة على قدر كبير وممكن من مادة المصدر الأصلي، وهناك أيضا مسألة الأقلمة الفضفاضة أي التي تضيف عناصر جديدة إلى مادة المصدر الأصلي وقد تتخلص من بعض المادة الأصلية بكل حرية. ويساعد التمييز بين هاتين المسألتين في فهم علاقة النص المصدر بالنص المؤقلَم.
وأضاف توماس ليتش تصنيفا آخر للأقلمة، يعتمد على طريقة تعامل الفيلم مع المصدر الأصلي، وهي عشر طرق مختلفة: 1/ طريقة الاحتفال بالمصدر من خلال تعظيم الاصول، بما يجعل النص المؤقلم اكثر ملاءمة للشاشة تلخيصا أو توسيعا أو تحديثا أو دمجا. 2/ التركيب على نص آخر 3/ المحاكاة عبر أقلمة الزمان والمكان الاصليين مع الابقاء على جوهر المصدر الاصلي 4/ طريقة المراجعة أي اعادة صياغة فهمنا للمصدر الاصلي في محاولة للمحافظة على روحه 5/ طريقة الاستعارة أي وضع الاصل في سياق جديد تماما 6/ الهدم عبر التعامل مع النص المؤقلم على انه اصلي 7/ التشابه باستعمال اشارة عابرة الى المصدر من اجل التوازي معه موضوعيا من ناحية الحبكة والشخصيات 8/ التهكم عبر الاشارة بشكل مباشر الى المصدر الاصل بقصد السخرية بدلا من محاولة اعادة سرد القصة. 9/ المحاكاة الثانوية وهي ابعد ما تكون عن المصدر الاصلي اذ تؤقلم نفسها بنفسها بالاعتماد على مصادر عدة يمكنها ان تفيد منها في تطوير الاقلمة. 10/ الاشارات وهي المجال الاكثر شيوعا في التناص حيث تشير النصوص الى نصوص اخرى دون أي اعتبار للمصدر الاصلي. وثمة طرق اخرى تعتمد التداخل النصي فيكون الفيلم مزيجا من أكثر من طريقة.
ومن المهم عند النظر في علاقة الفيلم بالمصدر الاصلي التفكر مليا في الأصول التي تمت أقلمتها تباعا لواحدة من تلك الطرق. وحتى في حالة الكتاب الصوتي الذي فيه تكون الأقلمة أمينة على المصدر، فإن بإمكان السارد أن يؤدي دوره الصوتي بطريقة معينة كما أن طريقة عرض كل صفحة على الشاشة لمدة دقيقة هو أقصى درجات الوفاء للأقلمة. وليس المهم الولاء للنص الأصلي وانما المهم هو محافظة هذا النص على روحه عند أقلمته بالمسرحية أو الفيلم.
إجمالا فان أهمية دراسات الأقلمة تكمن في أولا الاهتمام بالمصدر الأصل عند تغلغل آليات الوسائط إليه وحسب المجالات المعرفية الخاصة بها، وثانيا التشجيع على الاستدراك والجدل حول بعض التصورات المتعلقة بالنظرية السردية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram