يوسف حمه صالح مصطفى *
تشهد بعض الجامعات العراقية تزايدًا ملحوظًا في عدد الأكاديميين الحاملين لألقاب علمية عليا كـ"بروفيسور"، دون أن يقابل ذلك تطور مماثل في المعرفة أو الإنتاج العلمي، مما يعكس ظاهرة "الجهل المُقنّع". هذا المفهوم يُشير إلى تَسَتُّر الجهل خلف مظهر العلم، حيث تُمنح ألقاب رفيعة لمن لا يمتلكون مؤهلاتها الحقيقية، مما يخلق خللًا عميقًا في المنظومة الأكاديمية ويهدد جودة التعليم العالي.
كثيراً ما نقول او نسمع: هل حقاً هذا استاذ جامعي!؟
لستُ في سياق التعميم، فالشعور بالمشكلة ناجم عما نراهُ من مستويات اكاديمية هابطة لدى طلبة هذا العصر مقارنة بالأجيال السابقة، فالمعمل الاكاديمي في جامعاتنا اليوم اصبح عاجزاً عن انتاج عقول كفوءة قادرة على خدمة المجتمع، و قد كنا في بداية السبعينات من القرن الماضي نسمع بأن فلاناً من الاساتذة، بروفيسور، و كان عدد من يحمل هذا اللقب كان من القلة بحيث يُشار اليهِ بالبنان، أما الآن، ما اكثر البروفيسورية و حملة الشهادات العليا حين تعدّهم! و لكن هل أنهم في المستوى العلمي الحقيقي لخصائص هذا اللقب أو تلك الشهادة؟
في السياق الأكاديمي، يُعد لقب "بروفيسور" تتويجًا لمسيرة علمية حافلة بالبحث الرصين والتعليم المتميز. إلا أن الواقع في بعض المؤسسات الاكاديمية إن لم يكن في أغلبها، في العراق و الاقليم يشير إلى تفشي حالة من "الجهل المُقنّع"، حيث يتوارى ضعف الكفاءة والخبرة خلف ألقاب علمية عليا لا تستند في كثير من الأحيان إلى الجدارة والكفاءة و الثقافة العامة. و تمثل هذه الظاهرة انحرافًا خطيرًا في معايير الترقية العلمية، وتدل على أزمة عميقة في منظومة التعليم العالي. وهناك ممن يحملون لقب "أستاذ - پروفيسور" لايملكون سوى النزر اليسير من المعرفة، ويتجلى ذلك في تقييم الطلبة و أصدقاء المهنة لأدائهم وسلوكهم، فهم لايقرأون و لا يتابعون و لا يُحدَثون معلوماتهم البالية و يتسترون تحت حصانة اللقب العلمي "اللاعلمي!" في غياب المسؤولية الذاتية والرقيب الخارجي، و يكتفون بشتات المعلومات التي التقطوها من دراساتهِم الأولية و العليا.
تعريف الظاهرة:
"الجهل المُقنّع" هو حالة يحصل فيها الفرد على منصب أو لقب علمي رفيع، في حين يفتقر إلى الأساس المعرفي أو المهاري اللازم له. قد يتمكن هذا الفرد من اجتياز المتطلبات الشكلية، لكنه يفتقر إلى القدرة الحقيقية على ممارسة الدور الأكاديمي كما ينبغي. وغالبًا ما يكون هذا الجهل مقنّعًا بمظاهر خارجية كالشهادات، والألقاب، والوظائف الرسمية.
أسباب تفشي الظاهرة:
1.التركيز على الكم لا الكيف:
الترقية العلمية تُبنى على عدد البحوث وليس على قيمتها أو أثرها العلمي.
2.الفساد والوساطات:
الاعتماد على العلاقات الشخصية أو السياسية في منح الترقيات، وتجاهل التقييم الموضوعي.
3.غياب المساءلة العلمية:
ضعف لجان التقييم وانعدام الشفافية يؤديان إلى ترفيع غير المؤهلين.
4.انتشار المجلات غير الرصينة:
النشر في مجلات تجارية بلا تحكيم حقيقي يُستخدم كوسيلة شكلية للترقية.
•انحدار جودة التعليم:
الأكاديمي الجاهل يُنتج طلبة ضعفاء، ويُكرر النمط نفسه.
•انعدام ثقة المجتمع:
يضعف احترام المجتمع للمؤسسة الأكاديمية، ويزيد من السخرية تجاه الألقاب.
•تهميش الكفاءات الحقيقية:
الأساتذة الأكفاء ربما يُقصَون أو يشعرون بحالة من الاغتراب الاكاديمي، مما يضعف روح التنافس العلمي الشريف.
•تراجع سمعة الجامعات:
الجامعات التي تحتضن هذا النمط تفقد مكانتها في التصنيفات العلمية العالمية.
•تراجع جودة التعليم:
وجود أساتذة غير مؤهلين في مواقع التأثير يؤدي إلى ضعف في تأهيل الطلبة وتدني مستويات الخريجين.
•تشويه الهيبة العلمية:
تضخم الألقاب يفقدها معناها الحقيقي، مما يضر بسمعة المؤسسات العراقية محليًا ودوليًا.
•إحباط الكفاءات الحقيقية:
يشعر الأكاديميون المجتهدون بحالة من الإحباط و اليأس عندما يُساوى بينهم وبين من حصل على اللقب بطرق غير علمية.
•تعميق الفجوة بين اللقب والواقع:
يتحول "البروفيسور" من رمز للعلم والمعرفة إلى مجرد لقب بلا مضمون، مما يخلق شكوكًا عامة حول مصداقية اللقب الأكاديمي.
الحلول المقترحة:
1.اعتماد تقييمات نوعية:
كالمراجع العلمية، والمشاريع التطبيقية، والتأثير المجتمعي.
2.إنشاء لجان تقييم مستقلة:
تُشرف عليها جهات أكاديمية محلية أو دولية ذات مصداقية.
3.ربط الألقاب بالأداء الفعلي:
لا تُمنح الألقاب إلا بعد تقييم دقيق لمستوى التدريس والبحث.
4.التصدّي للمجلات غير الرصينة:
يجب عدم احتساب النشر فيها ضمن معايير الترقية.
5.تبني ميثاق أكاديمي شفاف:
يُقر بمعايير النزاهة والجدارة كأساس لكل ترقية.
6. من خلال لجان علمية متخصصة و موثوقة و بحسب معايير علمية محددة ينبغي إعادة النظر بالضعفاء من ذوي الألقاب العلمية و إبعادهم من الوسط الاكاديمي للحيلولة دون مزيد من تخريب عقول الشباب و المجتمع.
الخاتمة:
الجهل المُقنّع خطر يهدد البنية العلمية والتعليمية من الداخل، ويجب مواجهته بتشريعات صارمة، وإرادة أكاديمية مخلصة. إن الحفاظ على سمعة الألقاب الأكاديمية، وعلى جودة المخرجات التعليمية، لا يتحقق إلا بإعادة الاعتبار للعلم الحقيقي، وربط المناصب بالكفاءة لا بالمظهر. العراق، كبلد عريق في تاريخه الأكاديمي، لا يليق به أن يستسلم لتزييف الألقاب، بل ينبغي أن يكون في طليعة الدول التي تحارب "الجهل المُقنّع" بكل حزم.
أن مستويات الثقافة والوعي داخل أي مجتمع تتراوح ما بين ضعيفة جدا وعالية جدا, بلا شك تقع الاكثرية في ضمن الوسط مع الشريحة التي تسمى بأنصاف المثقفين، و القلة القليلة ذوي الوعي الواسع، فهم النخبة الغريبة او المغتربة، يتمتعون بالإدراك العالي للحقيقة و يتعاملون مع الواقع و حيثياته بموضوعية، متحررين فكرياً من طفيليات العقل المتمثلة بالتحيزات و الأفكار الذاتية المسبقة، وهذهِ الطامة الكبرى التي إبتلى بها مجتمعنا و لاسيما مؤسساتنا الأكاديمية، و هي زيادة أعداد الكادر التدريسي على حساب الجودة مما أفضى إلى انحدار التعليم بشكل ملفت للنظر، و اخذ الجهل المُقنّع يعشعش في ثنايا العقول الكثير من حملة الشهادات العليا و الالقاب العلمية الرفيعة! إلى حدّ الكارثة، فهُمّ في الحقيقة لم يألوا جهداً في تطوير أنفسهم و لن يفعلوا ذلك طالما انهم يتبجحون و يتباهون بما نالوه من شهادة او لقب علمي رفيع، و يُراوحون في المجال الضيق من المعلومات ذات الصلة بالاختصاص،أنه إستنساخ متكرر للمعلومات الدراسية ليس إلّا، دون الأخذ بنظر الاعتبار شمولية المعرفة في زمن الليبيرالية و مابعد الحداثة و العولمة و الذكاء الاصطناعي، و التي ينبغي على الاكاديمي ان يَلّم ببعض جوانبها المهمة ذات الصلة بالحياة العامة التي تساهم في تعزيز المهارة الفكرية العلمية في صالات المحاضرة، فالغرور الاكاديمي يوهم صاحبهُ انه مكتفي معرفياً تماماً دون ان يدرك هذا التصحُر الذي يعاني مِنْهُ الا وهو الافتقار إلى المعرفة الشاملة " ثقافة الحياة "، الذي لا يُعالج إلا عبر الاطلاع الواسع الذي يشمل قراءات متنوعة في الادب و الفلسفة و ممارسة هوايات تمنحنا الغنى و المتعة و فهم للحياة، كالفن والموسيقى و الرياضة والسفر..
و الافتقار إلى ثقافة الحياة يُعَدّ خللاً في شخصية الاكاديمي الذي ينعكس ذلك سلباً في سلوكه و تعامله، فهناك نسبة معينة منهم مبتلون بهذا الداء المظلم تحت برّيق الشهادة أو اللقب "، إنه "الجهل المُقَنّع"أو الفقر المعرفي، كونهم يكتفون بهذا الرصيد المتدني و الضيق من المعرفة دون الخروج إلى العالم الرحب عبر القراءة والمتابعة الحثيثة التي تليق بالأستاذ الجامعي.
الافتقار إلى ثقافة الحياة يُعَدّ خللاً في شخصية الاكاديمي الذي ينعكس ذلك سلباً في سلوكه و تعامله، فهناك نسبة معينة منهم مبتلون بهذا الداء المظلم تحت برّيق الشهادة أو اللقب "، إنه "الجهل المُقَنّع"أو الفقر المعرفي، كونهم يكتفون بهذا الرصيد المتدني و الضيق من المعرفة دون الخروج إلى العالم الرحب عبر القراءة والمتابعة الحثيثة التي تليق بالأستاذ الجامعي.
· أكاديمي و استاذ جامعي من جامعة صلاح الدين










