لم يعد مستغربا، في الآونة الأخيرة، أن تكتشف أن أحد مجالس العزاء (الفاتحة) كلف نحو عشرين مليون دينار (قرابة 18 ألف دولار)، فهناك مجالس عزاء تكلف أكثر بكثير، يقول بعض الفقراء إن مصاريفها "تبعث الروح من جديد" خصوصا إذا كانت تلك المجالس لزعماء قبائل أو مسؤولين أو رجال أعمال لأن المبلغ قد يتضاعف مرتين أو مرات.
وطوال ثلاثة أيام، يستنفر أهل المتوفى كل طاقاتهم لتقديم الخدمات للمعزين، ومجرد تقديم الشاي أو القهوة لم يعد يكفي، فالتنافس الشديد في إظهار الكرم يدفع أهل المتوفى أحيانا إلى اتخاذ تدابير متطرفة، كنحر عشرات رؤوس الغنم، وطهي كيلوغرامات لا حصر لها من الرز والدهن والخضار، وتقديم "صواني" من الحلويات والفواكه، وسرادق أنيق يفرش فيه سجاد نادر، وغيرها من التدابير التي تثقل قائمة الحساب. مصاريف تقصم الظهر "وتكسر" الأرجل
يقول علي (25 سنة) "كنت أشارك مع أعمامي في مجلس عزاء قريب لنا، كنت المعزب، (الذي يخدم الضيوف)، وكسرت رجلي بسبب تزحلقي بالدهن المتخلف على الأرض من الطبخ، الذي غطى الشارع بأكمله".
ومشهد الدهن وبقايا الرز التي تغطي شوارع بأكملها منظر مألوف في أغلب مجالس العزاء التي تقيم سرادقاتها في الشوارع العامة، وغالبا قرب منزل المتوفى، وتقطع بذلك الشارع لمدة ثلاثة أيام. ولأن هناك من يصرف ببذخ، يشعر الآخرون بالرغبة في المنافسة، أو تجبرهم التقاليد عليها، ويقول فاضل مطشر (45 سنة ) في حديث لـ"المدى برس"، "تكلفت فاتحة والدي 18 مليون دينار، غطينا جزءا منها من الفضل (مبلغ مالي يقدمه المعزون لتخفيف التكاليف على أهل المتوفى)، واضطررت لاستدانة الباقي"، ويضيف باعتزاز "لا يمكن أن تكون فاتحة أبي أقل من (فواتح) أقربائي، عيب، عيب".
عشائر واسط: لن نقبل بهذا الإسراف أكثر
لكن "العيب" الذي يتحدث عنه فاضل، هو مظهر اجتماعي تطور وتطرف في الآونة الأخيرة بشكل لم يكن موجودا بهذا الحجم في السابق، ويبدو أن شيوخ العشائر ووجهاءها ورجال الدين بدأوا بالتضايق منه، لكن أي تعديل على هذه العادات يحتاج إلى "شجاعة" كبيرة وجهد جماعي، لأن من يقوم بالتغيير منفردا سيوصم بأنه "جلف" (بخيل)، يقصر عن إكرام الميت وضيوفه.
ويقول الشيخ عباس جاسم الداشور وهو أحد شيوخ عشيرة العابد في حديث إلى"المدى برس"، إن "مجالس العزاء باتت عند البعض مصدرا للتباهي، وخرجت حتى عن السياقات المتعارف عليها ،وهذا أمر يؤسف له، ولابد من التصدي له".
ويؤكد الداشور أن "من يعتقد أن هناك حرجاً أو عيباً في الموضوع فهو واهم"، ويضيف "الحرج والعيب في أن تتم إقامة الفاتحة لثلاثة أيام وفيها من البذخ ما لا يمكن وصفه وإشغال الناس عن أعمالها اليومية، لذا من الأفضل والمناسب أن يكون موعد إقامة الفاتحة عصراً وضمن وقت محدد".
ويشدد الداشور على أن "هذا الميثاق بات ضرورة ملحة في المرحلة الحالية، ولابد من إقراره وجعله عرفاً عشائرياً سائداً في واسط".
ويحاول شيوخ واسط كتابة ميثاق شرف وهو فكرة أطلقتها (لجنة العلاقات العامة في مجلس واسط) يحدد إقامة مجلس العزاء بوقت ما بعد الظهر لثلاث ساعات فقط، وتقتصر خدمة المعزين على توزيع الشاي والماء والقهوة لهم، ويمنع البذخ المبالغ فيه، وإطلاق العيارات النارية عند التشييع أو عند استقبال المعزين.
ويعلق الشيخ ناهي كريم احد شيوخ عشيرة (الحجام) على الميثاق بالقول "أنا وجميع أبناء عشيرتي أضم صوتي إلى الساعين لهذا الميثاق، وأدعو للتعجيل بإقراره لما يحمله من نقاط جوهرية، في تصوري الشخصي لا يوجد فيها محل خلاف بين أبناء العشائر".
مجلس محافظة واسط يحاول جعل "الميثاق" رسمياً
وتحاول حكومة واسط المحلية إضفاء صفة رسمية على الميثاق في مسعى لجعله أكثر إلزاما، ويقول رئيس لجنة العلاقات في مجلس المحافظة، حازم شمال باشا، في حديث إلى "المدى برس"، إن "اللجنة قدمت مقترحاً للمجلس يقضي بتبنيها فكرة وضع ميثاق عشائري، ينظم إقامة مجالس العزاء ( الفاتحة ) وتحديد مواعيدها، والتأكيد على عدم التبذير والإسراف فيها".
ويضيف باشا أن "المجلس وافق على طرح هذه الفكرة وتبنيها من قبل لجنة العلاقات العامة في المجلس، شريطة إشراك رجال الدين وشيوخ العشائر وممثلين عن الجهات الحكومية المعنية، بما يضمن إنضاج الميثاق وجعله متوافقاً مع رغبات وتطلعات الجميع".
ويبين باشا أن "مسودة الميثاق نصت على جملة من النقاط المهمة منها، تحديد أوقات إقامة مجلس الفاتحة، على أن يكون بعد الظهر حصراً كما معمول به في مناطق الفرات الأوسط، مع تقديم القهوة العربية، والشاي فقط للضيوف دون الحاجة إلى تقديم الطعام، وكذلك أن يتم اختصار مأدبة العشاء التي يقيمها ذوو المتوفى في اليوم السابع أو في أربعينيته على حضور أفراد أسرته المقربين منه، وإذا تطلب الأمر إشراك الجار من دون الحاجة لإقامة وليمة كبيرة ".
ويلفت المسؤول المحلي إلى أن "لجنة العلاقات انتهت من تشكيل لجنة تحضيرية لإقامة مؤتمر موسع يبين أهمية الميثاق والأسباب التي دفعت إلى وضعه، ومن ثم يقر هذا الميثاق خلال المؤتمر الذي سيقام بحضور واسع لرجال الدين وشيوخ العشائر والوجهاء".
لكن باشا يستدرك بالإشارة إلى أن "مسودة الميثاق منحت أسرة المتوفى وعشيرته الحرية الكاملة في الإنفاق على الفقراء والمعوزين، إذا ما أرادوا الثواب له لان هذا الأمر أقرب إلى الله من أن يكون بطريقة البذخ السائدة حالياً، والتي تتم بدعوة الشخصيات الاجتماعية والمسؤولين والأغنياء، دون أن يكون للفقير حصة من ذلك"، ويبين أنها نصت أيضا على "نقطة جوهرية وهي، منع إطلاق العيارات النارية في تشييع الجنائز، واعتبار ذلك خطا أحمر يكون الفيصل فيه القانون مهما كانت مرتبة المتوفى".