بغداد / عمّار عبد الخالق
لم يكن قرار هدم مستشفى الصدر التعليمي في البصرة مجرد إجراء عمراني عابر، بل تحوّل في غضون ساعات إلى بؤرة جدل مشتعلة، أعادت تسليط الضوء على هشاشة التخطيط الحضري وتناقض أولويات التنمية في واحدة من أكبر مدن العراق وأكثرها عطشًا للخدمات.
تأسس مستشفى الصدر في سبعينيات القرن الماضي، وظل لأكثر من أربعة عقود يشكّل حجر الزاوية في المنظومة الصحية لمحافظات الجنوب، وخصوصًا في تخصصات دقيقة كالأورام والجراحة العامة والطوارئ. وتشير بيانات صادرة عن دائرة صحة البصرة إلى أن المستشفى كان يستقبل شهريًا أكثر من 12,473 مراجعًا، ويُجري نحو 1,566 عملية جراحية في الشهر الواحد، مما يعكس حجم الضغط الهائل الواقع عليه وأهمية استمراره كمرفق خدمي رئيسي.
المستشفى الذي مثّل لعقود ركيزة طبية وإنسانية في البنية الصحية للمحافظة، أُزيل فجأة من الخريطة الإسعافية، ليفسح – وفق ما يتداوله الشارع البصري – مجالاً لمشاريع استثمارية أو سكنية، وسط غموض رسمي وصمت تخطيطي مريب.
وهذا التحوّل أثار حفيظة ناشطين ومحللين سياسيين، رأوا فيه حلقة جديدة من سلسلة “الاستثمار العشوائي” الذي يلتهم الفضاء العام، ويعيد إنتاج الإرباك الخدمي والازدحام السكاني في مشهد عمراني مفتقر إلى الرؤية والعدالة والتوازن.
لكن دائرة صحة البصرة، وفي بيان رسمي تلقت (المدى) نسخة منه، فنّدت تلك المخاوف، موضحة أن قرار الهدم استند إلى تقارير فنية صادرة عن لجان استشارية من وزارة الإعمار والإسكان، أكدت خطورة استمرار العمل داخل المبنى الرئيسي المؤلف من ثمانية طوابق، بسبب تهالك أسسه الإنشائية.
وأضاف البيان أن الهدم سيقتصر على المبنى الرئيسي فقط، ولن يشمل المباني الأخرى مثل مركز الأورام أو وحدة المعجّل الخطي، مؤكداً أن أرض المستشفى ستبقى مخصصة حصراً للاستخدام الطبي والصحي، ولا نية لتغيير جنس الأرض أو تخصيصها لأي مشروع استثماري.
كما أشارت الدائرة إلى تقديم طلب رسمي إلى محافظة البصرة لغرض إدراج مشروع إعادة بناء المستشفى ضمن مقترح طارئ يُرفع إلى مجلس الوزراء لاستحصال التمويل والموافقات اللازمة، مؤكدة أن المحافظة أبدت استعدادها الكامل للتعاون.
وفي السياق ذاته، نفى محافظ البصرة المهندس أسعد العيداني، بشكل قاطع، ما تداولته بعض الجهات حول إحالة مستشفى الصدر إلى الاستثمار أو التخلّي عن مشروع إعادة بنائها، واصفًا تلك المزاعم بأنها “أكاذيب لا تمضي على أبناء البصرة”، مؤكداً أن المستشفى سيتم تحويله إلى مدينة طبية متكاملة تليق بمكانة المحافظة وتلبي احتياجات سكانها الصحية.
وأوضح العيداني أن قرار الهدم جاء بناءً على تقرير فني هندسي صادر عن فريق متخصص من وزارة الإعمار والإسكان، بيّن أن المبنى يعاني من تقادم هيكلي وتضرر في ركائزه، الأمر الذي يشكل خطرًا مباشرًا على سلامة العاملين والمراجعين.
وأشار إلى أن ملكية الأرض التي تبلغ مساحتها نحو 20 دونمًا تعود بالكامل إلى دائرة صحة البصرة، وهي مسجّلة رسميًا باسمها، ما يجعل من غير الممكن التصرّف بها لأي غرض استثماري، مشدّدًا على أن المشروع يخضع لإشراف ومتابعة حكومية رسمية ضمن إطار تطوير القطاع الصحي في المحافظة.
وأكد العيداني أن الجهات المعنية باشرت فعليًا بإعداد خطة لإخلاء المستشفى بالتنسيق مع دائرة الصحة، تمهيدًا لتنفيذ مشروع الهدم وإعادة البناء، وذلك وفق كتاب رسمي صادر من دائرة صحة البصرة، بالإضافة إلى وثائق رسمية تتضمن سند العقار والتقارير الفنية اللازمة.
من جانبه، عبّر الناشط السياسي علي المعلم في حديثه لمؤسسة المدى عن بالغ استغرابه من قرار هدم مستشفى الصدر، واصفًا إياه بأنه توجّه مقلق يُفرغ البنية الصحية من أعمدتها الأساسية، ويمضي بعكس الاتجاه الذي تفرضه الحاجة الماسّة لأبناء المدينة.
وأضاف أن المعلومات المتداولة بشأن إمكانية تحويل أرض المستشفى إلى مشروع ترفيهي أو استثماري تطرح علامات استفهام كبيرة حول فلسفة التخطيط الحضري، ومدى إدراك الجهات المعنية لعمق الأزمة الصحية في المحافظة.
وأشار إلى أن مستشفى الصدر لا يُعد مجرد منشأة خدمية، بل يمثل مركزًا مرجعيًا على مستوى الجنوب، يحتضن تخصصات دقيقة كعلاج الأورام وأمراض السرطان، وهو ما يجعل قرار تفكيكه أو نقله دون بديل متكافئ بمثابة ضربٍ لبنية الرعاية الصحية وتجاهلٍ لحق المواطنين في العلاج والرعاية الكريمة.
أما الناشط المدني علي البخاتري، فقد انتقد ما وصفه بـ”النهج غير المدروس في تحويل المرافق العامة إلى مشاريع استثمارية”، مشيرًا إلى أن البصرة تشهد تراجعًا واضحًا في مساحاتها الخضراء والخدمية، مقابل توسّع غير محسوب لمشاريع تجارية لا تعود بالنفع المباشر على السكان.
واستذكر البخاتري تجربة تحويل “منتزه الخورة” إلى مركز تجاري رغم الاعتراضات الشعبية، معتبرًا الأنباء عن إزالة مستشفى الصدر وتحويله إلى مشروع استثماري بمثابة صدمة جديدة للشارع البصري.
ولا يغيب عن الأذهان أن محافظة البصرة تعاني من عجز فادح في الكوادر الطبية والمرافق الصحية، ما يجعل قرار هدم مستشفى الصدر التعليمي يحمل أبعادًا أكثر خطورة، إذ يشكل تهديدًا ملموسًا لقدرة المنظومة الصحية على مواجهة الاحتياجات المتنامية للمواطنين.










