لطفية الدليمي
لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند رسل Bertrand Russell من غير مُنازع.
يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين برغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هو ما ساهم في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم،كما فعل فتغنتشتاين واكتفى بالعمل معلّما في مدرسة إبتدائية في مدينة على جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابا في عمارة سكنية.
ليس اختياري لبرتراند رسل محض ذائقة شخصية أو إنجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص إنطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش رسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872-1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والإجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعشْ طويلاً يرَ كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات رسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة رسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان سطح القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل رسل على أنسنة الإشتغال الفلسفي عبر الإنغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تستدعي مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج رسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الإستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبردج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز رسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله رسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّية رسل في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.
لقائي الفكري الأوّل مع برتراند رسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات رسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.
كتابُ "صورٌ من الذاكرة" واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل إلتقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته مع الأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه رسل عن بواكير علاقته مع الفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لرسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي رسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا رسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا رسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ (الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.
تتناثر نتفٌ من سيرة رسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development ، تطوّري العقلي My Mental Development. المؤلّف الأوّل بينها هو شهادة رسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة رسل الذاتية التي إرتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتب رسل الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة رسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينيات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سيري ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة رسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الإكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزءين الآخريْن منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة رسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لرسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ أنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات رسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة رسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبوية رسل ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.
جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة رسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول رسل في كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعاظم فلاسفة القرن العشرين.
تعجبني كثيراً تلك العبارةُ الأيقونية المتداولة التي كتبها رسل في تقديمه للسيرة وصارت فيما بعدُ إشارة دلالية لا تخطئ لإنسانية رسل وسموّ أخلاقياته: " تحكّمت في حياتي مشاعر ثلاثة بسيطة لكنّما غير محدودة في قوتها الطاغية: توق جارف للحب، وبحث لا يهدأ عن المعرفة، وإشفاق عظيم تجاه هؤلاء الذين يقاسون ويتعذبون". تناول رسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبردج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر(مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبردج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول رسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أمريكا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ رسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.
ليس لديّ ما أقوله بشأن هذه الترجمة الحديثة لسيرة رسل الذاتية المترجمة إلى العربية سوى أنّ مَنْ جعل من المثلث القيمي (الحب، المعرفة، التعاطف مع الآخرين) منارةً تهدي حياته في كلّ أطوارها يستحقُّ قراءة سيرته الذاتية الكاملة بكلّ الشغف اللائق بفيلسوف عاش طويلاً ورأى الكثير وكتب عن هذا الكثير الذي عاشه ورآه.
برتراند رسل في سيرته الذاتية المكتملة

نشر في: 28 مايو, 2025: 12:02 ص









