TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العالَم الآخر لِلنخبة الجديدة من المنطقة الخضراء إلى ساعة الرولكس

العالَم الآخر لِلنخبة الجديدة من المنطقة الخضراء إلى ساعة الرولكس

نشر في: 29 مايو, 2025: 12:02 ص

د. حيدر نزار السيّد سلمان

بدأت قصّة التحوّلات الاجتماعية من المنطقة الخضراء المسوَّرة بسكّانها المعزولين اجتماعياً وثقافياً وسلوكياً عن بقية الشعب المستبعَد من دخول هذه المنطقة.
كلُّ شيء مختلف فيها؛ قصورها، شوارعها النظيفة، كهربائها المستدام، خدماتها، مطاعمها، هدوئها وهي تبدو كمدينة أحلام لبقية العراقيين، ومن هنا امتدّت ظاهرة المجمّعات السكنية المسوّرة والفخمة وسكّانها من أثرياء ما بعد٢٠٠٣ وحاشية السلطة، لتتشكل بيئة اجتماعية-عمرانية جديدة غريبة عن النسيج الاجتماعي العمراني العراقي. ولم يتوقف هذا العزل الاجتماعي الثقافي على المنطقة الخضراء المحصَّنة، بل امتدّ لمربعات أمنية تتخذ من مناطق بغداد الراقية وحتّى بعض المدن العراقية مكاناً متفرّداً بالبذخ والرفاهية وحياة السلطة المتنعّمة بمواردها الثرية.
غدت هذه المناطق المشار إليها وكأنّها في عالم ثقافي عمراني مختلف عن أحياء الشعب ومناطقهم؛ والأكثر غيظاً أنها عزلت بين الأوليغارشية وبين مادتها الجماهيرية، لا سيما في مناطق العشوائيات. وبينما تعيش هذه النخبة في ترفها وحياتها الرغيدة يتحسس الناسُ فقرهم وهمومهم وبحثهم عن الأمل بحياة سعيدة بأدنى المستويات، الأمر الذي انبثقت عنه ثقافتان: واحدة لِلنخبة وأخرى شعبية، تحاول اللحاق بالأولى بأمل المحاكاة والتقليد طبقاً لتأثّر المغلوب بسلوكيات الغالب الخلدونية. وإذا كانت الأولى الاستهلاكية تمكن أصحابها من تلبية حاجتهم فإن الثانيةَ ترى في نفسِها العجز عن استهلاك مطمئن لحاجاتها حتّى العادية الضرورية منها.
شكّلت الأوليغارشية الحاكمة عالمها الجديد بميزاته العمرانية والثقافية المغايرة انحرافاً عن البيئة العمرانية الاجتماعية العراقية المستندة إلى غياب الحدود والفوارق، في هذا الجانب بين النخبة والشعب في السلوك والتقاليد والقيم والطقوس الدينية والتدين وما يتعلّق بالتراث العراقي والأمكنة، وتحول التدين الشعبي المفعَم بالبراءة والنقاء في أداء الطقوس والشعائر الدينية، إلى فضاء لإبهار النظر والتفاخر بالمكان والحضور النخبوي في صالات القصور الفخمة، إذ نشطت الأوليغارشية في عزل احتفالاتها الطقوسية داخل مناطقها وبحضور نخبتها أفراداً وجماعات، مستعينةً بقرّاء المراثي المشهورين الذين عبّرت مراثيهم عن الالتزام بعدم إغضاب مضيفيهم وناثري الأموال عليهم؛ وهذا يعني الالتزام بالطقوس الحرفية غير المزعجة لِلسلطة من جُلاس هذه المواكب والمجالس، فلا نقد أو عبارات تذمّر من الواقع والفساد المستشري كما هو الحال في المجالس الشعبية التي يتدفق فيها ينبوع الغضب والسخط في القصائد الرثائية وتتحوّل في مواسم عاشوراء إلى بؤر ثورية اقتداءً بالثورة الحسينية. وبذلك حوّلت النخبُ السلطوية وأنصارُها التديّنَ إلى تديّن سياسيّ مُستغَلّ ديماغوجياً لِلتلاعب بعواطف الذين يعيشون خارج أسوار عالمها، ومكاناً لِلتباهي بفخامة القاعات الكبيرة المكيفة وأعداد الحضور النخبوي.
في تكوّنها الثقافي الجديد جمع البرجوازيون الجدد بين التدين وحياة الرفاهية في محاولة توفيقية مثيرة لِلجدل، ونبذوا الزهدَ الذي تغنّوا به كثيراً، كما برزت ثقافة مستحدَثة لهذه النخبة تتمثل في اقتناء ساعات الرولكس وباتيك فيليب ولونجين وشراء سُبحات الكهرمان واليُسر والفيروز والعنبر وغيرها من السُبحات عالية القيمة المادية والندرة كدليل على الثراء والانتقال الطَبَقي رغم أنه انتقال مشوّه ومحاولة إظهار نزعة حداثة تغريبية، وهو الحاصل بالفعل، إذ تبدو مثل هذه الاهتمامات والثقافات في عالمها الغربي بمشاهيره ورموزه الفنية والسياسية. ويمكن أن نلحظ تماثلات لذلك عراقياً بالتسوق المفرط من ماركات عالمية في الملبس والأحذية والسيارات، كما جسّدوا ثقافتهم الجديدة وفضائهم الاجتماعي المغاير بحيازة المزارع الخاصّة بقصورها ومسابحها وحيوانتها الأليفة والمفترسة، وفيها تحدث السهرات المظللة بالكتمان وممارسة أنواع المُتع والرفاهية. وقد جاءت كتقليد لما كان يفعله سلطويو ما قبل ٢٠٠٣، وهي تعطي تصريحاً عن الثقافة الجديدة بِبُعدها الانفصالي عن الثقافة الاجتماعية والتأكيد على حالة الانتقالات الطبقية الحادّة والتعبير عن مغانم السلطة السريعة. ولعلّ هذا السلوك الثقافي يمثّل تحولات في أنماط التفكير ومتبنيات السلطويين ومن تسلّق معهم من المعينين والمساعدين والحاشية إلى هذا العالَم المختلف عمراناً وثقافة، وهو بالعكس مما يعبر عنه خطابهم الشعبوي والمرهون بأسلوب بقائهم كنخبة حاكمة أو منتفعة. ولم يقتصر هذا الانتقال الاجتماعي الثقافي الاستهلاكي على الأماكن ذات الخصوصية الشديدة، بل امتدّ ليقيم منشآت وعمران ترفيهي باذخ حُسِبَ كمكان عام يُسمَح بارتياده، لكنّه في جوهره وبقيمته المادية الباذخة وأبهة عمرانه يعطي بطاقة الدخول والاستمتاع بمطاعمه ومقاهيه ونواحيه الترفيهية لمن يملك المال الفائض. ويمكن أن نطلق على ذلك عملية التسييج بالمال لا بالصبّات الكونكريتية والحرّاس، كما هو حال المنطقة الخضراء، وفي هذه الأماكن يمارس أهلُ السلطة والنفوذ والمال من مقاولي وكومبردارية العهد الجديد المتخَمين بالثروات المنهوبة كفائض قيمة بوصفهم الملاك الجدد لهذه البلاد ونخبته البرجوازية يمارسون حياة الترف والرفاهية بعيداً عن المجتمع خارج أسوارهم.
وفي تطوّر مثير لِلسلوكيات القيمية والثقافية لهذه النخبة وحاشيتها والمنتفعين بفعل سلطتها أصبحت المحظيات والخليلات جزءاً من عالمها المغلَق،إذ ساد مصطلح «الفاشينستات» كمفهوم دلالي لهنّ وماترتب على الثقافة الجديدة. وشهدت الشوارع العامة الكثير من الأحداث كان طرف فيها المحظية من سياسي أو كومبورداري أو من أثرياء مابعد ٢٠٠٣ مقابل أجهزة الشرطة. وفي هذه الحالات كُنّ يصرخن بغضب وثقة مسنودةٍ من رجال مهمّين، منحوهنّ سيارات حديثة تفغر أسعارها أفواه النّاس في الجانب الآخر ذهولاً، ومثل هذه الثقافة الغارقة بالملذات الحسيّة والمنتجة عن هبات السلطة وامتيازاتها أنتج مداحوها ومغنّوها ومنشدوها مايعبّر عن نزعة ثقافية هجينة فأصبح المعتدي والأشقياء الفتوات والتهديد بقطع الأيادي وعشق المشاجرات والتفاخر بالعدوان معان لأغاني وأهازيج تحمل الروح البدوية والأنماط الثقافية غير المتحضرة التي تعتمد القوّة والتفاخر بها بديلاً عن النظام والقانون.
أفضت هذه التحوّلات الاجتماعية إلى تغيّرات في منظومة القيم والسلوكيات الأخلاقية أنتجتها انغماس النخب الجديدة وأتباعها الأثرياء في عالَم جديد بعمرانه وثقافته وظواهره الاجتماعية كنتاج لِطبقة هجينة لاتملك جذور معرفية تؤهلها إلى تبوّء مقعدها في مصاف الطبقة التي انتقلت لها في الترقي الاجتماعي والتعليم، بل هي مارست سلوكيات غريبة اجتماعياً وثقافياً وعمرانياً، وأصبح لها قيمها التي تحاول فرضها ومنحها الشرعية بقوّة سطوتها ونفوذها، كما تحاول إشاعتها، وهو ماحصل ببروز الروح الاستهلاكية وتقليد هذه النخبة بغية الاستحواذ على المال والإثراء السريع مقابل التخلّي عن أخلاقيات العمل. كما نلاحظه في الاندفاع عند البعض لِلحصول على المال بالوسائل غير المشروعة سواء بالعمل التخادمي مع النخبة الجديدة أو بدونها. وطبقاً لذلك فإنَّ التحولات الاجتماعية أفرزت نخبةً سلطوية وأتباعها، متخمة بالمال تحاول خلق رأسمال رمزيّ مضادّ لِواقعها من جانب، وقد أشاعت الروح الاستهلاكية والكسل والعجلة في الثراء بغية اللحاق بالسابقة. كما انفصلت هذه الأوليغارشية عن واقعها الاجتماعي والثقافي والعمراني متّخذة من أماكنها المسوّرة أنماط حياتية جديدة وفّرتها لها التطورات السياسية لما بعد ٢٠٠٣.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram