طالب عبد العزيز
اِستقت المعرفةُ أهميتها من النابهين والعارفين، وسط جموع الجاهلين بها، وبوأتهم مقدرتهم على استكناه واستشراف المستقبل وإرتقاء المكانةَ الرفيعة، ثم منحتهم السلطة والهيمنة، فخرج منهم الكاهن والتاجر والأمير وصاحبُ المكر، من الذين أسسوا الطبقة الأولى في المجتمعات، وتمكنوا من رقاب وقلوب الناس.. وهكذا كانت انتقلت وظيفة المعرفة من المعرفة والعلم بالشيء والاستشراف الى السلطة، وباتساع رقعة(العارفين) المتعلمين اتسعت رقعة الحياة، وكانت على الصورة التي نعرفها تأريخياً، في الأطماع والغزوات والحروب واستلاب الحقوق.
هل نقول بأنَّ جزءاً من المعرفة كان شرّاً؟ مترددين، نقول: نعم، وآيتنا في ذلك أنَّ إدارة الظلم ليست غبيةً، بالمطلق! وإمرةُ الناس لم تأت من جاهل بهم، عاجزٍ على فهمهم، فالمحتال ليس غبياً، واللص ذكيٌّ، مثل القاتل الذي يتمكن من إخفاء جريمته في القتل، ومزور الوثائق والسندات عارف بمرتبة العبقرية، وقد يرقى الى مرتبة الحاكم الذي يوهم الناس بأنَّ سلطانه هبةُ السماء وهكذا كانوا. ونحن في هذه لا نقول بأنَّ المعرفة لم تقدم جميلاً، أبداً، إذْ ليس الشرُّ نتاجَ الجهل، قطعاً، لكنَّ ما نريد أنْ نذهب اليه يكمن في قدرة البعض على إحتكار المعرفة أولاً، واستثمارها لصالحه ثانياً، والعمل على إبقائها في دخيلته، خشيةَ أنْ تسود، ففي معرفته ويقينه أنَّ سيادتها قضٌّ لمضجعه، ونهاية لهيمنته، وزوال ملكه، نقول ذلك ونحنُ نقرأ تواريخ الكهنة والحكام والملوك والاسياد(العارفين) من الذين لم يتركوا رذيلةً لأحد.
بوّأت (المعرفةُ) الكاهنَ مكانته بين أتباعه، فملكَ وهيمنَ وساد، ولأنّه يريدها خصيصةً به فقد احتكرها لنفسه، ثم أكسبها لأسرته، حتى قالت العامة: أسرة فلان الكاهن، في إشارة الى العلم والمعرفة التي ستُلحقُ بها جملةُ الصفات الكريمة(التديّن، والخير، والصدق، والنجابة، والأمانة...) وهكذا، يوصل حبلاً لا يريد له القطع، ومثله في اكتساب الصفات كان المنجِّم، والخطيب والساحر، ورجل الدين، وصاحب الكرامات، وسواهم، لكننا، سنقف عند حقيقة معرفتهم، أهي معرفةٌ بالفعل أم إحتيال بطلاء المعرفة؟ أتذكرُ فيما أتذكر من الاساطير بأنَّ فرعون كان يسرُُّ شقيقه هامان بأنّه ليس ربّاً، لكنه يريد أنْ يجعل من نفسه ربّاً على جموع هؤلاء الجاهلين، لئلا يفقد سلطته ويضيع ملكه! ترى، كم بيننا من يعتقد ويقرُّ بيقينه المطلق، بأنهُ ليس عالماً، عارفاً، سيداً، حاكماً، زعيماً... مستحقّّاً المكانةَ التي هو عليها؟ لكنه لا يريد لحقيقته الكشف والبيان، مثلما لا يريد للعامة أن تعرفَ حقيقته، ففي ذلك زوال له ولمملكته.
حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت الاسر الدينية(الصوفية)على وجه التحديد هي الوسيط العملي بين الوالي العثماني والعامة من البصريين، ثم تبوأوا السلطة والحكم، وملكوا النخل والاطيان، وشيدوا القصور والدواوين، وظلَّ الناس يجمعون على أحقيتهم في ما ساده الله اليهم، فهم الخير والدين والوجيه عند الله. سنكتسفُ الشرَّ الكامن في(المعرفة) هذه حين نعرفُ بأنَّ نسبة الأميّة في المجتمع العراقي وحتى تأسيس الدولة العراقية في 1921 كانت أكثر من 95%!! نقرأُ في الويكيبيديا سيرة أحد رجال الدين شيوخ الإسلام ما كتب" ولد لعائلة علمية، عريقة، فوالده هو الشيخ حسين، ابن الشيخ علي، نجل الشيخ محسن، نجل الشيخ عباس، بن عالم عصره، ووحيد دهره، آية الله الشيخ جابر العدناني، المكيِّ، الخزرجي الحجازيّ، الممتدة أصوله في بطون وشعاب مكة ونجران والمدينة، والمهاجر الى اليها، والمدفون فيها كبيرهم أمام الحرم الشريف وسادن المسجد الطاهر وهكذا ستجدُ أنَّ الشيخ أحاط نفسه بسور من الامجاد التي لا يصحُّ للعامّة القدح بها لكنه، وبعد أن ساد وملك وتسلط، وفي غمرة حاجة الناس الى الخبز واللحم والدواء والثياب والتعليم والصحة يقول بأنَّ مبلغاً مقداره مئة الف دينار مجز للعائلة العراقية، حيث لا حاجة للحليب والنستلة والكاكا وعلكة أبو النّيوه ولطعم الليمون.










