بغداد/ المدى
تمر العلاقة بين بغداد وواشنطن بمرحلة حساسة تُشبه "الهدوء ما قبل العاصفة"، وسط تراكم مؤشرات الانكماش السياسي والدبلوماسي، التي دفعت خبراء ومراقبين إلى التحذير من دخول العلاقة في مرحلة التموضع الصامت، حيث لا تصعيد مباشر، لكن أيضاً لا شراكة فعالة.
ويرصد مختصون في الشأن العراقي جملة مؤشرات على ضعف العلاقة بين بغداد وواشنطن، أبرزها الانكفاء النسبي للسفارة الأميركية عن الحضور الفاعل في الملفات الكبرى، وغياب أي إعلان عن زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء إلى الولايات المتحدة، رغم مرور أشهر على قدوم الإدارة الجديدة.
وما يثير القلق في بغداد هو أن واشنطن اتخذت خطوات اقتصادية، من جانب واحد، كمنع العراق من استيراد الغاز من طهران، وإبرام عقود نفطية وغازية ضخمة مع إقليم كردستان، بشكل مباشر، دون الرجوع إلى السلطات الاتحادية.
وبينما تعترض بغداد رسميًا على هذه العقود، إلا أن غياب قانون النفط والغاز منذ 2005، وفشل الحكومات المتعاقبة في تنظيم ملف الثروات، يجعل موقفها القانوني والسياسي هشاً أمام الشركاء الدوليين، الذين يبحثون عن بيئة واضحة ومستقرة للاستثمار.
تجاهل الرسائل
في هذا السياق، أكد الباحث في الشأن السياسي، ماهر عبد جودة، أن "الإدارة الأمريكية ترى نفسها الراعية للعملية السياسية في العراق، وهي من تضمن بقاء الشرعية السياسية للنظام الحالي في نظر المجتمع الدولي، وهي تعتقد بأنها زرعت بذرة الديمقراطية في العراق، وقدمت في سبيل ذلك تضحيات كبيرة، بما فيها 400 مليار دولار و4000 قتيل أمريكي".
وأوضح عبد جودة في حديث لـ(المدى) أن "ضعف نشاط السفيرة الأمريكية في العراق، وعدم إرسال بديلة حتى الآن، يعكس رسالة واضحة من الإدارة الأمريكية بأنها غير راضية عن الوجوه السياسية الحالية في العراق، لكن الطبقة السياسية العراقية لا تهتم بهذه الرسائل ولا تدرك تبعاتها" مشدداً على أن "هناك معضلة كبيرة في العراق تتمثل في السلاح المنفلت والفساد، وهو ما يبقي القيادات السياسية الحالية على المحك".
وأكد أن "الولايات المتحدة تراهن على عامل الزمن، بانتظار انتهاء دور الجيل الأول من السياسيين العراقيين الذين قادوا العملية السياسية منذ 2005 وحتى اليوم، مع العمل على الدفع بوجوه جديدة من الجيل الثاني".
ولفت الأنظار في الآونة الأخيرة تجدد دعوات داخل الكونغرس الأميركي لفرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات عراقية، أبرزها الرسالة التي تلقاها وزير الخارجية ماركو روبيو، والتي تضمّنت اتهامات مباشرة للحكومة العراقية بـ"الخضوع للنفوذ الإيراني".
وفي رسالة موجهة إلى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، دعا النائبان جو ويلسون (عن ولاية كارولاينا الجنوبية) وغريغ ستيوب (عن ولاية فلوريدا) إلى "إعادة تقييم شاملة للعلاقات مع العراق"، مطالبين بتجميد كافة المساعدات الأميركية للحكومة العراقية، إلى حين اتخاذ خطوات جدية لـ"الحد من الهيمنة الإيرانية".
وهذه الدعوات، التي تكشف موقف الحزب الجمهوري المتشدد، أعادت إلى الواجهة مطالب سابقة بإعادة تقييم العلاقة الثنائية، خصوصاً في ظل استمرار نشاط الفصائل المسلحة وتردد بغداد في اتخاذ خطوات حاسمة لضبط السلاح خارج إطار الدولة.
ورغم أن الحكومة العراقية تحاول الفصل بين علاقتها مع إيران كشريك جغرافي وتاريخي، وبين التزاماتها مع واشنطن كشريك استراتيجي، إلا أن هذا الفصل لا يبدو مقنعاً لصناع القرار الأميركي، خاصة في ظل استمرار نشاط الفصائل المسلحة.
ترامب والمكونات
من جهته، أكد المحلل السياسي رمضان البدران، أن "السياسة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب، رسمت ملامح واضحة للعلاقة مع الدول والمكونات"، "مشيراً إلى أن "ترامب كان يبحث عن الأصدقاء الذين يحبون أمريكا فعلاً، وأن هذا المبدأ لا يزال يؤثر في تعامل واشنطن مع العراق حتى اليوم".
وقال البدران لـ(المدى) إن "كل طرف في العراق، بعد أن تحول البلد إلى مكونات، ينظر إلى العلاقة مع أمريكا بشكل مختلف"، موضحاً أن "الكرد لم يتقاطعوا يوماً مع أمريكا، ولا مع المصالح الاقتصادية والتجارية معها، ولهذا فإن واشنطن تجد علاقاتها مع الكرد آمنة ومستقرة".
وأضاف أن "المكون السني، بدوره، تذبذبت مواقفه، فتارة يقترب من أمريكا، وتارة يتفاعل مع الموقف العربي العام الرافض للوجود الأمريكي، لكنه في المجمل لا يمتلك تقاطعات جوهرية مع واشنطن، مع احتماليات واسعة للتعاون معها، رغم أن بعض الفصائل السنية المتطرفة رفضت الوجود الأمريكي في السابق، إلا أن هذا الرفض كان محدودا".
وبيّن البدران أن "المشكلة الحقيقية تكمن في المكون الشيعي، حيث خضع الفاعل السياسي الشيعي في معظم الأحيان للإملاءات الإيرانية، وسعى لإرضاء طهران بأي شكل، حتى وإن كان الثمن هو تدهور العلاقة مع واشنطن، حيث أن هذه الفجوة تراكمت بمرور الوقت"، مشيراً إلى أنه " حتى مع وجود شخصيات شيعية سعت إلى تحسين العلاقة مع أمريكا، بقيت هناك مجموعات سياسية أو مسلحة، أو حتى جماعات ضغط، إما تتخذ موقفاً سلبياً من واشنطن، أو تعلن العداء الصريح، أو تقف متفرجة دون مبالاة".










