TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عراقجي والقنبلة والقطار

عراقجي والقنبلة والقطار

نشر في: 3 يونيو, 2025: 12:01 ص

غسان شربل

لا مصلحة لأميركا في اللجوء إلى الحلّ العسكري لحسم الخلاف مع إيرانَ بشأن برنامجها النووي. استخدام القوة في الشرق الأوسط يعيد إلى الأذهان تجارب مكلفة وبغضّ النظر عن الأسباب. الرئيس دونالد ترمب نفسه لا يعتبر الخيار العسكري خياراً مقبولاً إلا إذا سُدَّت كل الطرق أمام إقناع طهران بالتخلي عن الحلم النووي. وترد إيران أن لا وجود لحلم من هذا النوع وأنَّه محرم شرعاً بالنسبة إليها. وعلى رغم هذا النفي المتكرر من جانب طهران، عاد الملف النووي الإيراني إلى الواجهة.
لا غرابة أصلاً أن تكون هناك أزمة ثقة بين إيران وأميركا. تبادل الضربات في العقود الماضية مباشرة أو بالواسطة كرس أزمة ثقة عميقة. نظرت إيران الحالية دائماً إلى أميركا بوصفها الخطر الأول و"الشيطان الأكبر". تدرك طهران أنَّ أميركا قوة هائلة قادرة على قلب موازين القوى في معظم بقاع العالم. في المقابل، نظرت أميركا إلى إيران بوصفها القوة الرئيسية الداعمة للإرهاب في الشرق الأوسط ولمحت بصماتها في كل محاولات زعزعة الاستقرار.
عودة ترمب إلى البيت الأبيض صبت النار على زيت الأزمة مع إيران. اسمه مرتبط بحدثين إيرانيين كبيرين، هما الخروج من الاتفاق النووي وإصدار الأمر بقتل قاسم سليماني. فتح ترمب نافذة التفاوض مع إيران لكنَّه حرص على التذكير بوعد قاطع وهو أنَّ إيران لن تمتلك سلاحاً نووياً حتى لو استلزم الأمر في النهاية خياراً عسكرياً لمنعها من ذلك.
دخلت الأزمة النووية الحالية مع إيران مرحلة جديدة بعد التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يتهم طهران بتسريع وتيرة إنتاج اليورانيوم العالي التخصيب. حرص ترمب على تكرار عبارة "لا يمكنهم امتلاك سلاح نووي" يترافق مع إشارات متكررة منه إلى أنَّ الاتفاق "ممكن وقريب".
لا مصلحة لأميركا في الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مع إيران. ولا مصلحة لها أيضاً في أن تتولَّى إسرائيلُ القيامَ بمثل هذه المهمة التي يصعب ضبط انعكاساتها وذيولها. وأغلب الظن أنَّ إيران التي تفادت طويلاً الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع أميركا ستواصل تفادي مثل هذا الصدام المكلف. يضاف إلى ذلك أنَّ إيران قد لا تكون اليوم في أفضل أحوالها للدخول في اختبار قوة من هذا النوع. التغييرات التي شهدها الشرق الأوسط في الشهور الأخيرة لم تكن أبداً لمصلحة إيران، وهي حرمتها من بعض أبرز أوراقها.
لهذا يمكن طرح السؤال؛ بماذا سيشعر عباس عراقجي حين تحوم طائرته اليوم مقتربة من مطار بيروت؟ هل يشعر أنَّ بيروت تغيرت، أم تراه سيشعر أنَّ المنطقة تغيَّرت، ومعها موقع إيران فيها؟
يعرف عراقجي أنَّ مهمته هذه الأيام بالغة الصعوبة كي لا يقال إنَّها شبه مستحيلة. تطالب إيران العالم بطمأنتها، فيرد عليها مطالباً إياها بطمأنته.
يعرف عراقجي ماذا أصاب بعض عربات القطار الإيراني في الشهور الماضية. غادرت سوريا القطار الإيراني، ولا شيء يسمح بالاعتقاد أنَّها ستعود إليه. ما تغير في سوريا ليس اسم رئيسها. تغيَّر قاموس كامل في التعامل مع السوريين وجيران سوريا والعالم. أسقطت دمشق "قاموس الممانعة" الذي اتكأ عليه نظام الأسد طويلاً. لم تعد أميركا مصنفة في خانة الأعداء. صارت مرغوبة ومطلوبة، ويتم التجاوب مع نصائحها ومطالبها.
لم تعد سوريا تستضيف ضباط "الحرس الثوري" الإيراني في إطار الخطة التي رسم الجنرال قاسم سليماني ملامحها على مدى سنوات، خصوصاً بعدما نجح بالتعاون مع روسيا بوتين في إنقاذ نظام الأسد الذي شارف الانهيار.
لم تعد سوريا تستضيف مقرات المنظمات الفلسطينية الممانعة وتوفر لقادتها ملاذات اعتبرتها آمنة. لم تعد هذه المنظمات مقبولة في سوريا، وبات "حزب الله" اللبناني مدرجاً في خانة الأعداء.
لبنان نفسه لم يعد كما كان. لم تعد صناعة الرؤساء من مهام قيادة "حزب الله". ورئيس الجمهورية الجالس في بعبدا دخل القصر على قاعدة "حصرية السلاح" بيد الدولة. يمكن قول الشيء نفسه عن رئيس الوزراء الجالس في السراي الحكومي. برنامج الحكم الحالي هو التطبيق الكامل للقرار 1701، والإفراط في التأخير يبدو محفوفاً بالأخطار وإضاعة فرص إعادة الإعمار والاستقرار.
يعرف عراقجي أنَّ أزمة الملف النووي الحالي جاءت في ظروف بالغة الصعوبة. التغيير الذي حصل في سوريا يكاد يوازي الذي حصل في العراق ساعة اقتلاع تمثال صدام حسين. عراق آخر. وسوريا أخرى. وأمام خسارة بهذا الحجم لا تملك إيران تعويضاً. لم يغادر العراق القطار الإيراني بعد انطلاق "طوفان الاقصى" وحروبه، لكنَّه آثر البقاء خارج العاصفة أو المغامرة. صواريخ الحوثيين لا تشكل بدورها تعويضاً.
وعلاوة على المشهدين السوري واللبناني لا بدَّ من التوقف عند المشهد في غزة. لا حدود للكارثة هناك ولا حدود لوحشية إسرائيل. قاتلت "حماس" كثيراً وطويلاً ودفعت أثماناً باهظة، لكنَّها لا تملك اليوم عملياً غير محاولة الاحتماء بويتكوف.
يعرف عراقجي ماذا أصاب القطار الإيراني بعد "طوفان الأقصى". يعرف أيضاً أنَّ دول المنطقة تشجع سياسة بناء الجسور مع بلاده. وربما يعرف أيضاً أنَّ القبول بدور أقل يبقى أفضل بكثير من المجازفة بتعريض بلاده ونظامها لصدام مباشر مع الآلة العسكرية الأميركية.
· عن الشرق الاوسط.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: صنع في العراق

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

 علي حسين عاش العلامة المرحوم محسن مهدي ينقب ويبحث في كتب التراث ويراجع النسخ المحفوظة في مكتبات العالم من حكايات ألف ليلة وليلة، ليقدم لنا نسخته المحققة من الليالي، يقول لنا فيها إنّ...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

التكامل الاقتصادي الإقليمي كبنية مستدامة للواردات غير النفطية

ثامر الهيمص المرض الهولندي تزامنت شدته علينا بالإضافة لاحادية اقتصاديا كدولة ريعية من خلال تصدير النفط الخام مع ملف المياه وعدم الاستقرار الإقليمي. حيث الاخير عامل حاسم في شل عملية الاستثمار إجمالا حتى الاستثمار...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram