TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية: ديمقراطية المروحيات الترابية..حكومة راحة البال

الافتتاحية: ديمقراطية المروحيات الترابية..حكومة راحة البال

نشر في: 27 فبراير, 2011: 10:48 م

فخري كريم

أنجز العراقيون يوم أمس الأول الجمعة الخامس والعشرين مأثرة أخرى على الطريق نحو آفاق الحرية وتعزيز الديمقراطية التي يرون أنها لا يمكن أن تتحقق

إلا باستكمال بناء دولة المؤسسات والحريات وحقوق الإنسان، الدولة المدنية الديمقراطية الوطيدة وان محاولات إجهاضها، لن تأتي من خارجها فحسب، بل من داخلها، حيث تتشكل نزعات الهيمنة والاستئثار والانفراد بالسلطة،وما يرتبط بهذا النزوع، من الميل نحو نوع من "الاستبداد الديمقراطي"

بدعوى "حماية النظام" أو كما كان يقال "حماية الثورة"، "والدفاع عن الجماهير" والوقوف بوجه "الثورة المضادة". والشعب يدرك بحسه وتجربته التاريخية، أن هذا الميل ليس إرادياً في كل الأحوال، إنما هو نتاج عرضي لسطوة السلطة وإغراءاتها. وان من شأنه إذا ما تواصل أن يخلق أفضل مناخ للارتداد عن الديمقراطية، أو في الأقل تحجيمها وتشويهها. 

لقد استبقت تظاهرات أمس بحملة مثيرة وملفتة،عملت، ربما دون وعي على تشويهها وتصويرها على أنها، إما موجهة من أطراف البعث الصدامي أو مهددة من هؤلاء الصداميين والقاعدة، وقابلة للاختراق من قبلهم.

وكنا ندرك رغم وعينا بمقاصد هؤلاء الأعداء، وسعيهم، أن مثل هذه الدعاوى غير مبررة، بل أنها متهافتة، تنطوي على قيمتين خطيرتين: أولهما تضخيم دور الصداميين وتصويرهم على أنهم قادرون على تحريك الجماهير، وهذا ما يدحضه الواقع جملة وتفصيلا، وثانيهما سوء استخدام هذه الفزاعة كتهمة ضد أية محاولة احتجاجية وضد أي معترض ومحتج، وهذا تجاوز خطير وتعدٍ على كرامات المواطنين وقيمهم وعلى حريتهم في المعارضة والاحتجاج.

لكن التظاهرات التي شهدتها بغداد أثبتت وبالشكل الواضح والأكيد أن الجماهير التي خرجت كانت "مثالاً وعينة" من شعب أصيل ومتحضر وواع في احتجاجه وفي الأساليب التي عبر بها عن هذا الاحتجاج.

فلقد أثبتت الجماهير المتظاهرة أنها أذكى من خصومها الذين أرادوا النيل من صورتها، فكان أن سخرت جموع المتظاهرين جانبا أساسيا من جهد تظاهرهم لتأكيد تبرؤهم من البعث الصدامي والقاعدة وإدانتهم واستنكارهم لفلولهم التي لم تعد تخيف سوى المستفيدين من توظيفها كفزاعة سياسية.

لقد دان المتظاهرون البعث والقاعدة وكانوا واعين لمراقبة أي تحرك وأي شعار، الأمر الذي فرض عليهم حتى التخفيف من سقوف مطالبهم التي قدموها بأكثر الصيغ تهذيباً ورقياً، مؤكدين حرصهم على دولتهم وعلى العملية السياسية بإطارها الديمقراطي الصحيح وعلى تفهم المشكلات التي تواجه السلطات الحالية، وعلى أملهم وثقتهم في أنه ما زالت هناك إمكانية لتجاوز هذه المشكلات والنهوض منها بعراق معافى حر وكريم.

أُنجزت تظاهرات ساحة التحرير بالشكل الذي يشّرف المتظاهرين ويفخر به العراق والعراقيون. ولم يكن الكم العددي تعبيرا حقيقيا عن ملايين العراقيين الذين يشاطرون متظاهري ساحة التحرير قناعاتهم واندفاعهم، لولا الإجراءات التعسفية للحد من سعتها، لكن أسلوب التظاهر كان معبرا حقيقيا عن معدن عراقي أصيل، معدن توارى خلف عقود من الحرمان والاضطهاد والجرائم، وبقي ينبض بحياة وغنى وتمدن عكستها الجماهير بأرفع الصور في ساحة التحرير، تاركة الصورة الأخرى، الصورة الوحشية للأساليب التي قابلت حضارة المتظاهرين بهمجية الاعتداء عليهم والنيل من كرامتهم ومن نبل أهدافهم الوطنية العظيمة.

إن اللجوء إلى منع حركة العجلات، وبما منع آلاف المتظاهرين من الوصول إلى مكان التظاهرة لم يكن إجراءً امنياً احترازياً فحسب، كما ساقتها الحكومة، بل كان وسيلة أخرى، أضيفت إلى وسيلة التهديد بالصداميين والقاعدة، لمنع التظاهرة أو تحجيمها، كما أن الإجراءات التعسفية التي استخدمت ضد المتظاهرين والاعتداء عليهم، سواء بالضرب أو بالكلمات النابية أو بالاعتقالات التي طالت عددا كبيرا من الناشطين والإعلاميين أو باستخدام الرصاص الحي وخراطيم الماء وسوء استخدام المروحيات ومنع وسائل الإعلام من العمل، كلها كانت إجراءات أرادت التخويف والتهديد والتلويح بإمكانية اللجوء إلى أساليب السلطة المنافية للديمقراطية التي "ندعي" الامتثال لقواعدها في العراق الجديد في قمع الاحتجاجات والمحتجين!

كل هذا يفرض أن نبحث عن الصداميين وعن القاعدة وإجرامهما في مكان آخر وليس بين صفوف متظاهري ساحة التحرير..إن الذي لم يتردد في مواجهة مواطنين أبرياء وعُزَّل إلا من كلمات راقية للتعبير عن احتجاجهم، والذي لا يتورع في استخدام كل ترسانة الجيش والشرطة في مواجهة أول تظاهرة سلمية وحضارية... هو من عليه البحث بين أدواته ووسائله عما هو مثير للشك والريبة.. وكان من مظاهر هذا السلوك إطلاق سيارات الأمن والمخابرات وهمرات الجيش في الشوارع لمطاردة واعتقال إعلاميين وناشطين شرفاء لا ذنب لهم سوى أنهم يعترضون ويحتجون بما يجب أن يكون عليه الاحتجاج في دولة ديمقراطية تحترم مواطنيها ويحبها هؤلاء المواطنون.

إن مجلس النواب مطالب، وفي أول لقاء له، بمساءلة أجهزة الحكومة التي جرى استخدامها بتعسف ضد المواطنين، لكون هذا لا يشكل اعتداء على متظاهري يوم الجمعة حسب، وإنما يشكل جرس إنذار لما يجب أن نتحسب منه في التعامل مع أية معارضة سلمية من قبل سلطة انطوى سلوكها في أول رد فعل لها، على الارتياب والقلق على مستقبل ديمقراطيتنا. كما أن النواب مطالبون بالتحقيق في الأداء المخجل، مهنياً وأخلاقياً، لشبكة الإعلام الممولة من المال العام، وانحيازها الفاضح ضد إرادة الشعب الذي يمولها. هذه الشبكة التي يديرها أمناء يفضلون الأكل مع السلطة ويوجبون الصلاة مع الشعب، مضحين بذلك بالوسائل الإعلامية التي يحركونها وبجهود الإعلاميين العاملين فيها والذين لا ينبغي أن يطول سكوتهم على هذا الوضع الرديء.

يوم الجمعة، وفي ساحة التحرير كنا أمام عقليتين، وكنا أمام أسلوبين، وأمام إرادتين، ومن حسن حظ الأقدار أن شعبنا استيقظ، واسترد زمام المبادرة، وكوّن لنفسه "مرجعيته" الخلاقة، المتمثلة بإرادته ومصالحه وحقه في الحياة، وهذا تأكيد على أن إرادة الشعوب هي الأبقى. وهو ما ينبغي أن يتعظ منه كثيرون يرون،  أن ساحة التحرير ما هي إلا مكانٌ لإطلاق الهتافات وعرض الشعارات "الكلام المجرد"، يمكن إنهاؤه كما بالأمس، بجيش من الهراوات وخراطيم المياه والمروحيات التي تذر الرماد في العيون، وينسى من لا يريد الانتباه إلى عمق الظاهرة الجديدة، إن مظاهرة الجمعة كانت لقاعدة النظام الديمقراطي وأنصاره الذين اكتفوا بالتعبير الغاضب أحياناً عن تذمرهم وعدم رضاهم، دون أن يسيء لنبل مقاصدهم وسلكوهم الحضاري، خروج أفراد "تعرف الحكومة هويتهم السياسية عن السلوك المتحضر"، لكن هذا أيضاً لم يكن يستدعي هذا الهجوم الذي أوحى للمراقبين، كما انه مواجهة في حرب عصابات.

لقد أحسن السيد رئيس الوزراء في توصيف "حضارية المظاهرة ووطنيتها"، لكنه لم يصب الحقيقة، وهو يعرض لوقائع مواجهتها من قبل قواته.

ملاحظة أخيرة،..

أنها المرة الأولى التي توضع فيها القوات المسلحة، وليس قوى مكافحة الشغب، في مواجهة مواطنين محتجين عزّل، وآمل ألا تُسجل كمأثرة وسابقة للحكومة في أول عهدها، قابلة للتكرار!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram