حسن الجنابي
وأخيراً غادر ايلون ماسك منصبه "التطوعي" كوزير بلا وزارة ولا راتب، وهو المعيّن مباشرة من قبل الرئيس دونالد ترامب دون المرور بالمحطات الدستورية المعروفة لتولي المناصب الحكومية العليا في أمريكا.
على العكس من ادعائه، فقد غادر فاشلاً بامتياز في أداء المهمة الموكلة له ابتداءً، وهي القضاء على الترهل الحكومي والإنفاق غير الربحي، أي غير المبرر مالياً، وبالطبع السعي لتحقيق كفاءة مالية عالية في العمل الحكومي.
من مسيرته المعروفة يبدو أنه رجل لم يعرف الفشل في مجالات عمله التي أصبح بسببها الرجل الأكثر ثراءً في العالم. ولكن ظهر بإن قدراته العقلية الخارقة لا تصلح في السياسة كما هي في مجالات العلم والابتكار وتحقيق "المعجزات" التكنولوجية على الأرض وفي الفضاء. فالطموحات الخارقة، والإيمان بالقدرات اللامحدودة للتكنولوجيا، والاستثمار المغامر، هي عبقرية استثنائية بلا أدنى شك، ولكن تمددها لتشمل عالم السياسة يدخل في مجال السذاجة التي تقود (وقد قادتْ) الى الفشل برغم الادعاء بخلاف ذلك.
فقوانين السياسة يصنعها الساسة لتأمين مصالح أنانية، مهما اقتربت في سعيها من فكرة العدالة. وهي توضع في ظل أحوال متغيرة، وموازين قوى واشتراطات يتحكم بها البشر، بوسائل حكم وتشريع وإنفاذ تعكس حالة مستمرة نسبياً من الصراعات، الطبقية والأيديولوجية والثقافية والدينية وغيرها، مما هو ليس ثابتاً مهما بدا منطقياً.
أما التكنولوجيا فهي تتعاطى بشكل أساس مع قوانين طبيعية ثابتة. ويمكن لها (أي التكنولوجيا) تسخير تلك القوانين ولكن لا يمكن تغييرها مثل قوانين السياسة. فاختراع وسائل السير أو الطيران عكس الجاذبية -مثلاً- لا يلغي قانون الجاذبية، مثلما يمكن لأي حكومة تغيير قوانين الحكومات التي سبقتها.
لذلك فإن مكتسبات السياسة مؤقتة مهما طال زمن هيمنتها وصلاحيتها، على العكس من مكتسبات التكنولوجيا. بمعنى آخر فإن ما يصلح للأولى لا يصلح بالضرورة للثانية. ومن هنا كان على إيلون ماسك أن يكتفي بالارتقاء بالبشرية الى تخوم المعرفة والإنجازات التكنولوجية الفذة والابتعاد عن أحابيل السياسة. ففي الأخيرة مهما عظمت "إنجازاته" في تحسين كفاءة عمل الماكنة الحكومية، يمكن لأي حكومة قادمة تغييرها بجرة قلم. بل أنه، هو شخصياً، وبعد أيام من مغادرته لموقعه واحتفاء ترامب به، ومنحه مفتاح البيت الأبيض الذهبي، انتقد الموازنة الحكومية الباذخة، التي أرسلها ترامب الى الكونغرس لإقرارها، واعتبرها "مثيرة للاشمئزاز"، أي أنها لا تنسجم مع مهمته التي كلف بها لتحسين كفاءة العمل الحكومي خلال الشهور التي مضت منذ تسلم ترامب لمقاليد الحكم في واشنطن!
أسهب ترامب، محقّاً، في مديح ماسك أثناء حفل توديعه المصغر في المكتب البيضاوي بمناسبة اعلان انهاء خدماته رسمياً، في تكريس لطريقة ترامب المبتكرة في استقبال الشخصيات الزائرة للبيت الأبيض. وظهر ماسك بوسامته المعهودة ومظهره غير الرسمي وقبعته الشبابية وهو يشير الى إنجازات يعتقد أنه حققها، دون أي إشارة أو اهتمام بمصائر الأمريكيين الذين وقعوا ضحايا اجراءاته الإدارية والمالية المكلف بها من الرئيس.
لقد جرّب ماسك طريقة سبق أن جربها غيره في أكثر من بلد في أوربا الشرقية وغيرها وفشلوا، ومنهم ييغور غايدار في روسيا، وليشيك بالسيروفتيج في بولندا وآخرون، وهي القيام بعملية "جراحية" سريعة وعميقة لخصخصة وتغيير الاقتصاد و"تحسين" الأداء الحكومي بتقليص القطاع العام والتخلص منه، وقد أحدثوا جراحاً عميقة في المجتمع والدولة. فالسياسة مهما كانت براغماتية لا يمكنها التعاطي مع المجتمع وفئاته وطبقاته المتنوعة باعتبارها كائنات مختبرية، تخضع لشروط المختبر المُحكمة التي يتحكم بها شخص (أو وزارة أو حكومة).
لقد كان واضحاً بأن إغراء الحاجة الى تعديلات جذرية في الأداء الحكومي لا ينجز بقرارات يقوم بها شخص من خارج النسق السائد لمجرد أن أعماله في القطاع التكنولوجي والمالي كان ناجحاً. وإن وقت الصدام مع صديقه الرئيس كان يلوح في الأفق منذ الإجراءات الأولى بغلق مؤسسات راسخة وطرد موظفيها. كانت تلك تصرفات ساذجة سياسياً لا تناسب عبقرية الرجل في مجالات أخرى.
ويبدو مما ينشر الآن بأن خلاف الرجلين (ماسك وترامب) سيكون فضائحياً. فقد نشرت مواقع أمريكية اليوم أخطر تصريح لإيلون ماسك بورود اسم دونالد ترامب في قائمة "أبستاين" وهي القائمة الأكثر سرية وخطورة في الواقع السياسي الأمريكي وأبطاله المتورطين بعالم الجريمة والشذوذ واغتصاب القصّر، وهي العملية (الفضيحة أو الجريمة) التي كان يديرها الملياردير اليهودي ابستاين الذي انتحر في السجن بعد القبض عليه. وإن ذلك هو السبب في عدم نشر القائمة كما أتفق قبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
مع ذلك أعتقد بأن ما قام به ماسك في محاولة ادخال مبدأ الكفاءة الحكومية كمؤشر للأداء سيبقى لفترة طويلة باعتباره محاولة جادة ومعياراً في الصراعات السياسية في أمريكا وغيرها من الدول.