TOP

جريدة المدى > عام > حوار بين مارسيلو غلايسر وسابين هوسنفلدر

حوار بين مارسيلو غلايسر وسابين هوسنفلدر

انتقادات قاسية لفيزيائيي الموجة الحديثة

نشر في: 11 يونيو, 2025: 12:03 ص

أدار الحوار: مارسيلو غلايسر*
ترجمة: لطفية الدليمي
تفكّر بعضُ العلماء باستفاضة في العقدين الماضيين حول أن بعض الأفكار الريادية المتقدّمة الخاصة بفيزياء الطاقة العالية High Energy Physics (وهو ذاته المسمّى فيزياء الجسيمات الأوّلية Elementary Particle Physics، المترجمة) وعلم الكونيات Cosmology قد تجاوزت حدود المنهجية العلمية المتّفق عليها. ما أعنيه بعبارة (تجاوز الحدود) هو طرح فرضيات مجاوزة للتفكير العلمي التقليدي وخارجة عن نطاقاته المتداولة، فضلاً عن كونها غير قابلة للإختبار التجريبي وربما كانت حتّى غير قابلة للتحقق على المدى الطويل. من أمثلة الكتب التي تناولت مثل هذه الأفكار كتاب (مشكلة الفيزياء The Trouble with Physics) للفيزيائي لي سمولن Lee Smolin، وكتاب (ليس حتى خطأ (Not Even Wrong للفيزيائي بيتر وويت Peter Woyt، وكتابي (صدعٌ على حافة الخلق A Tear at the Edge of Creation).
سابين هوسنفلدر Sabine Hossenfelder متخصّصة متمكّنة في الفيزياء النظرية إلى جانب كونها مُدوّنة علمية Blogger لها موقعها ذائع الصيت عالمياً. تهتمُ في أبحاثها بموضوعة الجاذبية الكمومية Quantum Gravity إلى جانب عدد من الموضوعات الأساسية في فلسفة الفيزياء وتاريخها وتطورها المفاهيمي. نشرت هوسنفلدر قبل بضع سنوات كتابها المميز تائهٌ في الرياضيات: كيف يقود الجمال الفيزياء في مسار غير منتج
Lost in Math: How Beauty Leads Physics Astray
ويتضمن نقداً صارماً للإبتعاد عن الممارسات المنهجية المتعارف عليها في البحث الفيزيائي.
نقرأ في الترويج الرسمي الذي طرحته دار النشر عن الكتاب:"لم نشهد أيّ تقدّم كبير في أسس الفيزياء لأكثر من أربعة عقود. أصبح الإيمانُ بالجمال (الرياضياتي) متصلّباً حتى بلغ مبلغ تعارضه الصارخ مع إشتراطات الموضوعية العلمية". إلى جانب هذا تكتب مجلة Publishers› Weekly:
"تجادلُ هوسنفلدر بشكل مقنع للغاية أنّ الفيزياء باتت تتعثّرُ في مسيرتها كثيراً بسبب تركيزها المفرط على الأناقة الرياضياتية Mathematical Elegance عوضاً عن الواقع".
رأيتُ - شخصيا - أنّ من الأفضل تجنّب المجادلات وطرح بعض الأسئلة بنفسي على سابين بشأن كتابها هذا. الموضوعة الأساسية في حوارنا هي لماذا ترى سابين توجيه الإنتقاد لفيزيائيي الموجة الحديثة أمراً في غاية الأهمية.
مارسيلو غلايسر
الحوار
غلايسر: هل يمكنكِ إخبارنا باختصار عن إهتماماتك البحثية؟
هوسنفلدر: أنا مهتمّة في الإطار العام بكلّ ما يمكنُ أن تخبرنا به الرياضيات عن العالم؛ لكنّ نطاقي البحثي الرئيسي هو كيفية إختبار صحّة نظريات الجاذبية الكمومية تجريبياً.
غلايسر: مدوّنتكِ الألكترونية المسمّاة BackReaction معروفة بمنهجيتها الواضحة في مساءلة الموضوعات المتقدّمة في الفيزياء النظرية المعاصرة. لماذا ترين الإنغماس في إدارة مدوّنة ألكترونية عملاً يستوجبُ الإهتمام من جانب الفيزيائي النظري؟
هوسنفلدر: أنا أكتبُ فقط عمّا يثيرُ إهتمامي إلى جانب أنّني أمنحُ الناس فرصة ثمينة لتبادل النقاشات المثمرة؛ لكن في الغالب ينتهي بي الأمر لدحض العناوين الكبيرة المضلّلة في وسائل الإعلام الأكثر شيوعاً وسطوة في العالم. المبالغة في العمل البحثي السطحي وغير المنتج لا تتسبّبُ بالإساءة إلى صورة تخصصي الفيزيائي حسب، بل تتسبّبُ أيضاً في الإساءة إلى التخصص ذاته. للأسف يميل معظم الباحثين الشباب إلى مجاراة التركيز على الأبحاث الشائعة والتي تلقى تمويلاً سخياً أكثر من سواها. هناك (موضة) طاغية حتى في البحث العلمي، وهذه الموضة لها أذرعها القوية وسطوتها الجبارة. أجاهدُ في مدوّنتي الألكترونية أن أفكّك أسطورة سطوة بعض الموضات السائدة في البحث الفيزيائي المعاصر.
غلايسر: دعينا الآن نتناول بالحديث كتابكِ الجديد (تائه في الرياضيات). إنّه نقدٌ متبصّرٌ ودقيق للوضع الراهن في الفيزياء النظرية وبخاصة الكوسمولوجيا وفيزياء الطاقة العالية. ما أهمّية هذا النقد وفقاً لرؤيتك الشخصية؟
هوسنفلدر: في الميادين البحثية المعاصرة التي أنتقدُها كثيراً يخسرُ واضعو النظريات الفيزيائية غالباً الكثير من الوقت والجهد والمال في محاولتهم حلّ معضلات غير موجودة أصلاً. هم يفعلون هذا لمجرّد أنّهم لا يمتلكون قبولا كافياً بالنظريات الفيزيائية السائدة اليوم. هم يرونها غير جميلة بما يكفي للتناغم مع ذائقتهم الرياضياتية. أعتقد بقوة أنّ هذه منهجية علمية سيئة يجب أن تتوقّف على الفور. المشكلة وراء كلّ هذا أنّنا إذا أجرينا تجارب دون دوافع نظرية قوية فلن نحصل الا على نتائج غير مؤثرة. لن نحصل على شيء!!، وهذه الحصيلة التجريبية ليست دافعاً جيداً لتطوير النظريات. صار الأمر يجري على هذه الوتيرة: نجري تجارب غير واعدة بشيء؛ لذا فهي لن تمدّنا بمعلومات جديدة. ماذا ستكون النتيجة المتوقّعة في حال مثل هذا؟ سيمضي المنظّرون الفيزيائيون في إختراع نظريات جديدة رائعة من الوجهة الرياضياتية ولكن ليس مِنْ شاهدة تجريبية تؤكّدُها. هكذا يمضي الأمر منذ عقود.
كتبتُ كتابي الذي نوّهتَ عنه لاعتقادي بأنّ الجمهور العام تلقّى معلومات مضلّلة. شهدنا في السنوات الماضية العديد من الكتب العلمية الشائعة التي تشيدُ بفخامة ورصانة نظريات فيزيائية جديدة مثل التناظر الفائق Super Symmetry، ونظرية الأوتار String Theory، والأكوان المتعدّدة Multi-verse Theory بسبب أناقتها الرياضياتية فحسب ولا لشيء آخر. قيل للناس أنّه سيمكننا إختبارُ هذه النظريات تجريبياً في وقت قريب رغم أنّ هذه الإدعاءات غير صحيحة. لم تأتِ لنا التجارب بأيّ تأكيد تجريبي. لننتبهْ: كان هناك دوماً خلال هذه السنوات علماء يدعون إلى إستثمار أموال دافعي الضرائب على سبيل المثال في المصادم الهادروني الأكبر من مصادم سيرن في جنيف، أو في بناء تلسكوب أكبر. تخيّلْ وسط هذه الشحّة المالية والتشدّد البيروقراطي تأتيك أخبارُ فشل الحصول على أدلة تجريبية مزعومة بشأن التناظر الفائق أو الأكوان المتعدّدة. كيف أستطيع في هذه المرحلة لوم هؤلاء الذين يرون أنّ الإنفاق على الفيزياء النظرية ليس سوى تبديد لأموال الضرائب؟ بل قد يذهب البعض إلى أنّ الفيزياء النظرية كلها جهد عبثي غير منتج. آملُ أن يدفع كتابي علماء الفيزياء في الميادين المعنية بالتمويل الكثيف للتفكير المعمّق في جوانب القصور التي حدثت سواءٌ في طبيعة أبحاثهم أو في طريقة تسويق أبحاثهم للجمهور العام.
غلايسر: يوجد -كما نعرف- انقسامٌ عميق بين أوساط الفيزيائيين حول جدوى استخدام الفرضيات غير القابلة للإختبار التجريبي. البعض منهم يدافعون عن وجهة النظر هذه لأنّهم يرونها عاملاً مساعداً في التقدّم المفاهيمي في الفيزياء المعاصرة. البعض الآخر من الفيزيائيين يرى هذه الفرضيات مضللة ولا تنتج شيئاً، وبالتالي يتوجّبُ أن لا يكون لها مكان في أبحاث الفيزياء المعاصرة. لماذا برأيك يحدث مثل هذا الأمر في الفيزياء المعاصرة؟
هوسنفلدر: كل فرضية ليست قابلة للإختبار لا يمكن عدّها علماً. لماذا علينا أصلاً مناقشة هذا الأمر؟ أنا لستُ مؤرّخة في العلم لكنّني لا أعتقدُ أنّ مثل هذا الأمر حصل من قبل. أعني من المؤكّد أنّ العلماء إقتنعوا من قبلُ بصحّة مفاهيم لم يعرفوا كيف السبيل لإختبارها في أوقات سابقة (مثل مفهوم الروح الحيوية). صار في عداد البديهة في أيامنا هذه أنّك عندما تشرعُ بالحديث عن المعتقدات غير القابلة للإختبار التجريبي فأنت تمارسُ الدين لا العلم. لماذا يفعل بعضُ العلماء هذا الأمر (أي تطوير نظريات غير قابلة للإختبار التجريبي، المترجمة)؟ لأنّهم قادرون على فعل هذا الأمر؛ إذ كلّما إنخفضت معايير تقديم الفرضيات صار انتاج الأوراق البحثية أيسر ممّا لو تطلّب الأمر إثباتات تجريبية صارمة. لا أظنُّ أنّنا في حاجة لتجاوز هذا الإنقسام بين الإتجاهين الفيزيائييْن بقدر ما نحتاجُ إلى توضيح معالم الحدّ الفاصل بينهما. لا مشكلة لي مع من يرغبون في قضاء حياتهم وهم يطوّرون نظريات غير قابلة للإختبار التجريبي مع أنّني أعتقد شخصياً أنّ هذا الأمر بالغ الغباوة. كلّ ما أريده أن لا يتظاهروا بأنّ ما يفعلونه هو علم حقيقي.
غلايسر: يطيبُ لي وصف الوضع الراهن بأنّه (حرب فكرية قَبَلية Intellectual Tribal Warfare). شخصيا كتبتُ كتاباً تناولت فيه القضايا التي تحدّثتِ عنها، وأجدُ أنّ فكرة الجمال الرياضياتي من حيث كونها المبدأ الموجّه للبحث الفيزيائي هي فكرة خطيرة ومضللة تماماً. هل يمكنكِ تقديم أمثلة عن كيفية إنحرافنا عن المسار المنتج والمجدي عندما نعتمدُ مثل هذا المبدأ؟
هوسنفلدر: جميعنا نريد أن نعرف ماهية المادة المظلمة، وما إذا كانت جسيماً جديداً، وإذا كان الأمر كذلك فأيُّ جسيم، أو ما إذا كنا بحاجة إلى تغيير شيء ما في الجاذبية. الغالبية العظمى من المقترحات التي طُرَحَت لهذا الغرض كانت نظريات رائعة لجسيمات جديدة. لم يتم قياس أيٍّ من هذه الجسيمات حتى الآن.
النقطة المهمة هنا هي أن نوع النظريات التي يطرحها الفيزيائيون يؤثر على نوع التجارب التي يُجرونها؛ ولهذا السبب شهدنا عقوداً من البحث عن جسيمات المادة المظلمة والتي عادت إلينا خالية الوفاض. بالطبع هذا لا يعني أن الجسيم غير موجود. ربما سيجدونه غداً، ولكن برغم ذلك من الواضح الآن أن هذا الجسيم لن يكون الجسيم الذي توقعوه في البداية.
هذا مثال واحد. مثالٌ آخر هو الجاذبية الكمومية: النظرية المفقودة التي تفسر كيفية تناسق المكان والزمان (بمعنى أشمل نظرية النسبية العامة،المترجمة) مع ميكانيك الكم. لقد بُذلَتْ جهود كبيرة هنا لتطوير نظريات مبنية على شواهد رياضياتية صرفة، وقد قاد ذلك إلى ظهور عدة مناهج لحل المشكلة، لكنها ظلت منفصلة عن الاختبار التجريبي. أجد من المدهش حقاً أن يُبذل كل هذا الجهد في تطوير النظريات، ولكن حتى عقد مضى لم يحاول أحد تقريباً إيجاد أدلة تجريبية على الجاذبية الكمومية. يتغير هذا الوضع ببطء الآن؛ ولكن لا يزال القدر الهائل من التمويل يُخصّصُ للتكهّنات الرياضية بدلاً من أبحاث إمكانية الوصول التجريبي.
غلايسر: هل تأملين في إمكانية التوفيق بين هذه التوجهات البحثية المتضاربة؟
هوسنفلدر: شخصيا ومنذ زمن ليس بالقصير فقدتُ كلّ أملٍ في أن يغيّر الباحثون في هذه الميادين مقارباتهم البحثية طواعية. يتطلّبُ الأمر ضغطاً شعبياً كبيراً في محاولة تغيير التوجّه البحثي الحالي والعمل على البحوث المثمرة.
غلايسر: هل تقرنين قصر النظر المفترض لدى مجموعة "التائهين في الرياضيات" إلى انغماسهم المفرط في العمل التقني وقلة التفكير الفلسفي في سياق العمل؟ وهل ينبغي على الفيزيائيين تعلّمُ الفلسفة؟
هوسنفلدر: أراه نقصاً في التأمل الذاتي، وربما يعود ذلك - جزئياً- إلى الضغط المُلحّ لإنتاج الأبحاث. لستَ في حاجة لأن تكون فيلسوفاً أو مؤرخاً لتدرك أنّ الجمال ليس دليلاً موثوقاً به لفهم الظواهر الطبيعية؛ ولكن عليك أن تجلس بين الحين والآخر وتسأل نفسك: هل ما تفعله مفيدٌ للعلم وليس فقط لقائمة منشوراتك؟
أما فيما يتعلق بدراسة الفيزيائيين للفلسفة فأعتقد أنّ تقسيم العمل أمرٌ رائع، وأنّه من غير المجدي وغير الضروري إجبارهمْ على تعلمها؛ لكن على الفيزيائيين الذين يعملون في مجالات قريبة من الفلسفة أن يسعوا إلى تبادل الخبرات من حين لآخر مع الفلاسفة، سواءٌ من خلال ورش العمل أو التعاون، أو ربما حتى مجرد تناول القهوة معاً. يكمن السؤال حول كيفية تطوير العلماء للنظريات في ظل قلة البيانات أو انعدامها في نقطة التقاء كلا التخصصين (الفيزياء والفلسفة، المترجمة)؛ لكنّ التواصل بين الفيزيائيين والفلاسفة لا يعمل بشكل جيد في الوقت الحاضر.
* مارسيلو غلايسر: أستاذ الفيزياء والفلك والفلسفة الطبيعية بكلية دارتماوث الأمريكية. له خمسة كتب منشورة. أنشأ بالاشتراك مع (آدم فرانك) مدوّنة 13.8 ضمن موقع Big Think الألكتروني سعياً للترويج لجمال العلم (الفيزياء بخاصة). (المترجمة)
- الحوار المترجم عن موقع Big Think الألكتروني ضمن الباب المعنون Hard Science.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

مقالات ذات صلة

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته
عام

خبرات التعليم والتعلّم: أن تتعلمّ وتُعلم في الوقت ذاته

ديفيد روبسُن* ترجمة: لطفية الدليمي وأنا أتناولُ فطوري صباح هذا اليوم، إستمتعتُ أيّما استمتاعٍ بحديث قصير مع ميا Mia، زميلتي الجديدة في دراسة اللغة الإسبانية. استعرضتُ بعضًا من درسي الأخير، وشرحتُ ما تعلّمْتُهُ عن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram