قبل اسابيع كتبت، هنا في المدى، عن تأثير العاطفة في العلاقات العائلية، وكيف أن هذه العلاقات عبارة عن مشاعر ذاتية أكثر منها أواصر موضوعية. وأشرت حينها إلى أن الذكريات، بما تثيره من عواطف، هي التي تشكل اللبنة الأساس في آصرة القرابة. وبعد نشر المقال شاهدت برنامجاً تلفزيونياً يتحدث عن عائلة تركية ولد لها طفل أثناء وجودها في السعودية، لكن ملامح هذا طفل لا تشبه ملامح أي من افراد عائلته، إلى درجة قرر معها الأب أن يقارن حمضه النووي بحمض ابنه، وجاءت نتيجة البحث لتؤكد الشكوك، الأمر الذي اضطر الأم إلى إجراء نفس الفحص، وجاءت النتيجة لتُعقّد الموضوع أكثر، إذ تبين أن الطفل لا يمت بصلة لا إلى الأم ولا إلى الأب!! عندها بدأت العائلة عملية بحث عن طفلها فقد صار واضحاً أن عملية استبدال قد حدثت في المستشفى، إلى أن وجدته عند عائلة سعودية، وهكذا استعادت كل عائلة صغيرها.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يقول: لو أن أحداً لم يتنبه للاختلاف في الملامح، هل كان الطفل أو عائلته "المزيفة" سينتبهون للأمر؟ بالتأكيد لا، فمن خلال سرد الأحداث في البرنامج التلفزيوني تبين أن العائلة التركية رفضت في بادئ الأمر التشكيك بهوية الصغير، وخاصَّة الأم، التي رفضت التشكيك بأمومتها للصغير إلا بعد صعوبات بالغة.
عموماً ليس هذا ما اريد الاشارة إليه اليوم، بل موضوع آخر يتعلق بحكمة الكائن البشري، وقدرته على استثمار تجربته التاريخية لإدامة بقاءه على الأرض ومقاومة صعوبات الطبيعة. وقد تجلت هذه الحكمة بهشاشة العائلة ككيان، فهذا الكيان، كما يبدوا، لا يقوم إلا على الذكريات التي تشكل جداراً عاطفياً يمنع افراد العائلة من التشتت ويبقيهم متضامنين معاً، ولو راقبنا البنى العائلية في الحيوانات، لوجدنا بأن طول فترة ديمومة بناء "عائلة أي جنس حيواني" ترتبط بطول فترة حاجة صغاره للحماية. لذلك تتفكك العائلة ما أن يتمكن الصغار من تلبية حاجاتهم الضرورية. بل إن بنية العائلة ترتبط كذلك بهذا الموضوع، فعند بعض الطيور يشترك الذكر والأنثى بتكوين العائلة وحمياتها ورعاية صغارها. أما بالنسبة للقطط مثلاً أو الكلاب، فتتولى الأنثى هذه المهمة، والسبب، كما يبدوا، أن الذكر لا حاجة له هنا.
إذن العائلة البشرية مبنية وفق صيغة تتناسب مع طول فترة حاجة صغار الجنس البشري للحماية والرعاية، فهذه الحاجة تستمر حتى عمر العشر سنوات وربما أكثر. لكن لماذا لا تتفكك العائلة بعد أن يكبر الأطفال؟ هنا تتجلى الحكمة، فهذه العائلة أصبحت تلبي حاجة أخرى، هي الحاجة لديمومة البناء الاجتماعي. وإذا كان نظام القطيع يلبي حاجة بعض الحيوانات للتضامن في سبيل تأمين الغذاء، فإن الحاجة إلى الكيان الاجتماعي التي نتجت عن فعاليات الوعي عند البشر، أسست العائلة البشرية بشكل مختلف. وهكذا صار يمكن للمجتمعات أن تتأسس وللحضارات أن تنمو، وللتاريخ أن يُكتب. الكائن البشري كائن فتّان وحكيم فعلاً
هشاشة العائلة وحكمة أفرادها
[post-views]
نشر في: 11 ديسمبر, 2012: 08:00 م
جميع التعليقات 1
حسين
طالما استمتعت بكتابتك.. ومتألق بحواراتك.. حماك الله