TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هشاشة العائلة وحكمة أفرادها

هشاشة العائلة وحكمة أفرادها

نشر في: 11 ديسمبر, 2012: 08:00 م

قبل اسابيع كتبت، هنا في المدى، عن تأثير العاطفة في العلاقات العائلية، وكيف أن هذه العلاقات عبارة عن مشاعر ذاتية أكثر منها أواصر موضوعية. وأشرت حينها إلى أن الذكريات، بما تثيره من عواطف، هي التي تشكل اللبنة الأساس في آصرة القرابة. وبعد نشر المقال شاهدت برنامجاً تلفزيونياً يتحدث عن عائلة تركية ولد لها طفل أثناء وجودها في السعودية، لكن ملامح هذا طفل لا تشبه ملامح أي من افراد عائلته، إلى درجة قرر معها الأب أن يقارن حمضه النووي بحمض ابنه، وجاءت نتيجة البحث لتؤكد الشكوك، الأمر الذي اضطر الأم إلى إجراء نفس الفحص، وجاءت النتيجة لتُعقّد الموضوع أكثر، إذ تبين أن الطفل لا يمت بصلة لا إلى الأم ولا إلى الأب!! عندها بدأت العائلة عملية بحث عن طفلها فقد صار واضحاً أن عملية استبدال قد حدثت في المستشفى، إلى أن وجدته عند عائلة سعودية، وهكذا استعادت كل عائلة صغيرها.. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه يقول: لو أن أحداً لم يتنبه للاختلاف في الملامح، هل كان الطفل أو عائلته "المزيفة" سينتبهون للأمر؟ بالتأكيد لا، فمن خلال سرد الأحداث في البرنامج التلفزيوني تبين أن العائلة التركية رفضت في بادئ الأمر التشكيك بهوية الصغير، وخاصَّة الأم، التي رفضت التشكيك بأمومتها للصغير إلا بعد صعوبات بالغة.
عموماً ليس هذا ما اريد الاشارة إليه اليوم، بل موضوع آخر يتعلق بحكمة الكائن البشري، وقدرته على استثمار تجربته التاريخية لإدامة بقاءه على الأرض ومقاومة صعوبات الطبيعة. وقد تجلت هذه الحكمة بهشاشة العائلة ككيان، فهذا الكيان، كما يبدوا، لا يقوم إلا على الذكريات التي تشكل جداراً عاطفياً يمنع افراد العائلة من التشتت ويبقيهم متضامنين معاً، ولو راقبنا البنى العائلية في الحيوانات، لوجدنا بأن طول فترة ديمومة بناء "عائلة أي جنس حيواني" ترتبط بطول فترة حاجة صغاره للحماية. لذلك تتفكك العائلة ما أن يتمكن الصغار من تلبية حاجاتهم الضرورية. بل إن بنية العائلة ترتبط كذلك بهذا الموضوع، فعند بعض الطيور يشترك الذكر والأنثى بتكوين العائلة وحمياتها ورعاية صغارها. أما بالنسبة للقطط مثلاً أو الكلاب، فتتولى الأنثى هذه المهمة، والسبب، كما يبدوا، أن الذكر لا حاجة له هنا.
إذن العائلة البشرية مبنية وفق صيغة تتناسب مع طول فترة حاجة صغار الجنس البشري للحماية والرعاية، فهذه الحاجة تستمر حتى عمر العشر سنوات وربما أكثر. لكن لماذا لا تتفكك العائلة بعد أن يكبر الأطفال؟ هنا تتجلى الحكمة، فهذه العائلة أصبحت تلبي حاجة أخرى، هي الحاجة لديمومة البناء الاجتماعي. وإذا كان نظام القطيع يلبي حاجة بعض الحيوانات للتضامن في سبيل تأمين الغذاء، فإن الحاجة إلى الكيان الاجتماعي التي نتجت عن فعاليات الوعي عند البشر، أسست العائلة البشرية بشكل مختلف. وهكذا صار يمكن للمجتمعات أن تتأسس وللحضارات أن تنمو، وللتاريخ أن يُكتب. الكائن البشري كائن فتّان وحكيم فعلاً

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. حسين

    طالما استمتعت بكتابتك.. ومتألق بحواراتك.. حماك الله

يحدث الآن

الأعرجي: نثمن موقف الشرع لتصحيح الأخطاء بانطلاقة قوية لبناء سوريا

اليوم.. انطلاق جولة جديدة من دوري نجوم العراق

إسرائيل تهدد لبنان: لن نسمح بالعودة الى واقع 7 اكتوبر

بعد العيد.. اتحاد الكرة: سنحسم ملف مدرب المنتخب الوطني

حزب الله ينفي صلته بقصف شمال فلسطين

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سافرات العبادي

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

قناطر: البصرة في جذع النخلة.. الطالقاني على الكورنيش

كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟

العمود الثامن: العدالة على الطريقة العراقية

العمود الثامن: السعادة على توقيت الإمارات

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجزعن مواجهة واقع يسير بنا إلى...
علي حسين

كلاكيت: عن (السينمائي) وعبد العليم البناء

 علاء المفرجي علاقتي مع (السينمائي) لها حكاية، تبدأ من اختياري لها لكتابة عمودي (كلاكيت) منذ عددها الأول، ولا تنتهي بعددها الأخير. ولئن (السينمائي) تحتفل بعشريتها الأولى، كان لزاما عليّ أن أحتفل معها بهذا...
علاء المفرجي

تركيا تواجه التحول الجيوسياسي الناجم عن عودة دونالد ترامب إلى السلطة

جان ماركو ترجمة: عدوية الهلالي في الأسابيع الأخيرة، ومع ظهور الديناميكيات الجديدة للجغرافيا السياسية لترامب، تركز الاهتمام إلى حد كبير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الدولية، بدلاً من التركيز على دول الطرف الثالث التي...
جان ماركو

منطق القوة وقوة المنطق.. أين يتجه صراع طهران وواشنطن؟

محمد علي الحيدري يبدو أن ملف التفاوض بين إيران والولايات المتحدة دخل مرحلة جديدة من التعقيد، ليس بسبب طبيعة الخلافات القديمة، بل نتيجة تبدّل ميزان القوى الإقليمي والدولي، الذي بات يفرض مقاربة مختلفة عن...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram