ستار كاووش
لي صديق عراقي يعيش في هولندا منذ زمن طويل جداً، حيث قضى أيامه وسط التقاليد الهولندية، ومارسَ حياته بشكل عام كما يمارسها الهولنديون. ورغم عذوبة وجمال روحه، لكنه يتمتع بنوعٍ نوعاً من المكر، حيث لا يتوقف عن مضايقة الاشخاص والتطفل عليهم، سواء بحسن أو سوء نية. وذات يوم، فيما كان يرتاد إحدى المقاهي قام بمضايقة مجموعة من الشباب الذين يجلسون مع صديقاتهم، محاولاً الرقص مع هذه أو الحديث مع تلك، ولا يتوقف عن مماحكتهم وطلب السجائر أو حتى الشراب منهم، وفوق هذا يأخذ مكانه ويتوسط طاولتهم رغم انهم لا يعرفونه ولا يريدونه أن يسمع حديثهم الخاص. طلبوا منه أكثر من مرة التوقف عن هذه التصرفات والمضي في حال سبيله، لكنه لم يتوقف عن فعل ذلك، بل كان يوغل في مشاكساته أكثر مع مرور الوقت. إنتصفَ الليل وهو على هذه الحال، حتى ساعة إغلاق المقهى حيث خرج الجميع. وبعد بضع دقائق، فيما كان هؤلاء الشباب في طريقهم الى منازلهم، شاهدوه يمشي بمحاذاة إحدى القنواة المائية، فإقتربوا منه خلسة ودفعوه نحو الماء، نكاية بما فعله بهم وبعطلة نهاية الاسبوع التي ضاعت منهم بسببه. المهم ان صديقي سقط في الماء وهو لا يعرف السباحة، ولم يتوقع الهولنديون أن أحداً لا يجيد السباحة، لأن الأطفال يتعلمونها في المدرسة الإبتدائية. عموماً دفعوا به نحو القناة وإختفوا مسرعين. وقد جاهدَ صديقي قبلَ أن ينجو من الغرق بصعوبة بالغة. وحين قص علي الحكاية بعد عدة ايام، سألته متعجباً (كيف نجوت وأنت لا تعرف السباحة؟) فنظر اليَّ بعينيه الواسعتين قائلاً (نعم أنا لا أعرف السباحة ولم أمارسها ابداً، لكن ياصديقي، انها حياتي التي رأيتها تُهدر امامي، فتحولت تلقائياً الى اعظم سباح في العالم، حتى تخيلتُ نفسي أسبح بطريقة الفراشة). فضحكتُ كثيراً ونَبَّهته للتعلم من هذا الدرس وعدم التطفل على الآخرين أو مضايقتهم.
هذه هي الحياة، وهكذا تمضي الأمور حين تجد نفسك بمواجهة مشكلة كبيرة تبدو دون حل، عندها تستجمع كل دفاعاتك وامكاناتك وتواجه الأمر. ولعل موقف صديقي الذي أوشك على الغرق يتشابه مع الحياة في الغربة بشكلها العام، فهي نوع من المقاومة وسباحة عكس التيار، أي أنك تقوم بأشياء جديدة لا تعرفها ولم تعتَد عليها، وعليك تغيير جانب كبير من حياتك التي ألِفتَها سابقاً لتخطو نحو حياتك القادمة التي تنتظرك. هي أيضاً أن تنسى الكثير مما عرفته وتعلمته وتبدأ بدروس جديدة في العيش والتطلعات والأهداف، حيث تكون اللغة جديدة والمناخ العام مختلف والثقافة والتقاليد ليس هي ذاتها التي تربيت عليها ودأبتَ على ممارستها. حتى تشعر بأنك في مرحلة إنتقالية، كأنك نجوت من شيء ما، أو تخطيتَ جداراً كبيراً وُضع أمامك.
وبشكل شخصي، بدلاً من أن أتعلم في الغربة سباحة الفراشة، قمتُ برسم الفراشة ذاتها كدليل أو مقابل للحياة، إنها النافذة التي تطل على المجهول القادم وهي الأمل الذي يضيء لي جانب من حياتي. ومازلتُ أتذكر حين تعلمتُ أول ثلاث كلمات هولندية وتساءلتُ مع نفسي وقتها (كيف سأمضي مع هذه اللغة الجديدة والصعبة؟ كيف لي أن أتعلم المزيد من الجمل والكلمات، كيف أُغازل امرأة باللغة الهولندية؟ أريد أن أمسك جيداً بالعبارات الجميلة التي يستعملها الهولنديون؟). وبعد سنوات طويلة صرتُ أستعيد هذه التساؤلات مبتسماً كلما أرسلتُ عمودي الذي أكتبه باللغة الهولندية لمجلة أتيليه التي هي واحدة من أجمل المجلات الفنية التي تصدر في الأراضي المنخفضة. عموماً عليك أن تسعى وتجتهد، فتأتي الحلول تباعاً، ثم تتأكد المشاريع وتتثبت الإنجازات. عليك أن تدفع مغامرتك الى أقصاها، ولا تكتفي فقط بسباحة الفراشة.