TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العمود الثامن: تحالفات .. وتحالفات

العمود الثامن: تحالفات .. وتحالفات

نشر في: 16 يونيو, 2025: 12:07 ص

علي حسين

لا أعرف عدد المرات التي تصفحت فيها موسوعة المؤرخ إدوارد غيبون صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية، قارئًا ومتمعنًا في الدروس والعبر التي تقدمها لنا تجارب الشعوب.. وقد اكتشفت معنى أن نتعلم الدرس من الأمم التي توهمت أن الميزان يمكن أن يكون مقياسًا لكل شيء إلا العدل.. يخبرنا غيبون كيف صنع كبار القادة الإمبراطورية الرومانية، فما أن يخرج قائد في حملة حتى تشعر بأن المعركة قد حسمت، فلا قوة مثل قوتهم ولا فرسان مثل جنودهم، ولكن كلما عاد قائد منتصر وهرعت الناس لاستقباله تقدم الجموع الخطيب والفيلسوف سينيكا ليقول له بصوت واضح: تذكّر أنك بشر، إلا أن موسوليني وبعد عقود ينسى أنه بشر، ويتذكر فقط أن أجداده الرومان كانوا يحكمون العالم، ورأى أن الشعوب لا تستحق الحرية وإنما القبضة الحديدية.
تسقط الإمبراطوريات حين يختلّ فيها ميزان العدالة، فالقانون في الأمم المتحضرة هو عنوان التوازن في العلاقة بين الحاكم والناس، فالـمالك الدائم للبلاد هو المواطن، أما المسؤول فهو صاحب وظيفة ذات مسؤولية محددة وواضحة هي: الحماية من الخلل في كل أبواب العمل، في العدل أولًا، وفي معيشة الناس ثانيًا، لأنّ بهذين العدلين وحدهما تستقيم العلاقة بين المسؤول والمواطن.
في الأيام الماضية وأنا أقرأ التعليقات حول عودة التحالفات الطائفية الى الواجهة أعدت تقليب صفحات موسوعة غيبون عن اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، لأجد أن المؤلف ظل طوال كتابته لهذا السفر الكبير مشغولًا بجرثومة الفشل باعتبارها السبب في تساقط العواصم، حيث يخبرنا أن الإمبراطوربة الرومانية سقطت حين أباح المسؤول لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وعندما أصرّ على استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الطائفية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح المسؤول أبواب التنكيل والتهميش والإقصاء، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن مسؤولوها بأن الحرية حق، والأمان حق، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادل معهم أكثر من عدله لأقاربه وأصحابه.
كان العراقيون ينتظرون نهاية حقبة الدكتاتورية، كي يخرجوا إلى النور، فقد أرهقتهم مدن الحروب والمقابر الجماعية، وبلغت أثمان الاستبداد مئات الآلاف من الضحايا وشعب يعيش معظمه تحت مستوى الفقر، فإذا بهم يجدون أن الوطن يخطف من قبل ساسة مصرّين على أنهم الأوصياء على أحوال الأمة والعباد.
لا يوجد أعظم من قادة يرسخون مبادئ المصالحة والحوار بديلًا عن لغة الثأر والانتقام، الناس بحاجة إلى مسؤول يراعي شؤونهم وليس إلى محارب يقف على أبواب روما، إلى رجال فوق التحزب والطائفية وشهوات الانتقام، وقديمًا علّمنا عنترة الدرس جيدًا:
لا يحْمِلُ الحِــــقْدَ مَنْ تَعْــــــلُو بِهِ الـــــرُّتَبُ
ولا يـــــــنالُ العــــلى من طبعـهُ الغـــــضبُ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. صلاح السماوي

    منذ 6 شهور

    الاستاذ الفاضل علي حسين حفظك الله من كل مكروه وامد في عمرك نحتاج كلماتك دائما نتعلم منك كل يوم

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram