TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العلاقات التجارية العراقية–التركية: بين توسّع التبادل وغياب التوازن

العلاقات التجارية العراقية–التركية: بين توسّع التبادل وغياب التوازن

نشر في: 17 يونيو, 2025: 12:01 ص

سهام يوسف علي

في ظل التحولات الإقليمية والدولية، تتجه كل من تركيا والعراق نحو تعميق العلاقات الاقتصادية الثنائية، حيث أعلن رئيس غرفة تجارة أنقرة، غورسال باران، عن اتفاق حكومي بين البلدين لرفع حجم التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار سنويًا، بعد أن بلغ مؤخرًا نحو 15 مليار دولار، تُشكل الصادرات التركية منها 13 مليارًا، في مقابل واردات عراقية متواضعة. وبينما تُقدَّم هذه الأرقام في الإطار الإيجابي للتعاون الإقليمي، فإن القراءة الاقتصادية الدقيقة تطرح تساؤلات جادة حول طبيعة هذا التوسع وجدواه بالنسبة للعراق، ومدى انعكاسه على بنية الاقتصاد المحلي واستدامته المالية، ويمكن تفكيك هذه الإشكاليات عبر خمسة محاور رئيسة:
أولًا: الميزان التجاري المختل
تعكس الأرقام المعلنة اختلالًا كبيرًا في الميزان التجاري بين البلدين، حيث إن نحو 87% من التبادل التجاري عبارة عن صادرات تركية، ما يعني عجزًا تجاريًا كبيرًا يتحمله العراق سنويًا. وتُشير هذه النسبة إلى تفاقم الاعتماد على الخارج لتأمين السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية، في ظل غياب قاعدة إنتاج محلية فاعلة، ما يؤدي إلى استنزاف مستمر للعملة الأجنبية عبر نافذة التحويلات التجارية، ويُفاقم الضغوط على الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي العراقي. كما يُعزز هذا الوضع النمط الاستهلاكي للاقتصاد العراقي دون تحفيز حقيقي للإنتاج أو التصدير، مما يُكرّس التبعية الاقتصادية ويضعف قدرة العراق على بناء اقتصاد متوازن ومستدام. وفي ظل استمرار العراق في الاعتماد شبه الكلي على الإيرادات النفطية، فإن هذا الاختلال يُعمّق من الهشاشة الاقتصادية ويزيد من قابلية الاقتصاد للصدمات الخارجية، سواء على مستوى أسعار النفط أو سلاسل الإمداد العالمية.
ثانيًا: مضاعفة التبادل إلى 30 مليار دولار – توسع غير مشروط
من الناحية الاقتصادية، فإن رفع التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار يُفترض أن يكون هدفًا مرحليًا ضمن رؤية استراتيجية تضمن تحقيق منافع متبادلة وتوازن تدريجي في التجارة، لكن المؤشرات الحالية لا توحي بذلك. إن لم تُقرَن هذه الخطوة بخطط حقيقية لتحفيز الإنتاج المحلي العراقي، فإن الجزء الأكبر من هذا الرقم سيكون في صالح الصادرات التركية. وبناءً على النسب الحالية، فإن العجز التجاري العراقي المتوقع مع تركيا قد يصل إلى 25 مليار دولار سنويًا، وهو رقم غير مستدام حتى في ظل وفرة الإيرادات النفطية. ويُرافق هذا التوسع مخاطر اقتصادية كبيرة، أبرزها تعميق نمط الاقتصاد الريعي الاستهلاكي القائم على تصدير الخام واستيراد السلع، وزيادة هشاشة الميزان التجاري والميزان الجاري، ما قد يهدد الاستقرار المالي في حالة حدوث صدمة نفطية. كما يُسهم في تراجع فرص الصناعات العراقية الناشئة في التنافس أمام البضائع التركية الرخيصة والمتنوعة.
ثالثًا: الاستثمار التركي في العراق – فرصة مشروطة
دعا الجانب العراقي عبر الملحق التجاري إلى توسيع الاستثمارات التركية في مجالات متعددة، مثل الزراعة، الصناعات الدوائية، والمنسوجات. ورغم أن هذا التوجه يبدو واعدًا من حيث المبدأ، فإن الفائدة تعتمد على كيفية إدارة هذه الاستثمارات. إذ ينبغي إلزام المستثمرين الأتراك بنسب تصنيع محلي وتشغيل العمالة العراقية، مع ضمان نقل التكنولوجيا وبناء قدرات إنتاجية محلية، وربط هذه الاستثمارات باحتياجات العراق التنموية لا بالمنافع السياسية قصيرة الأمد. لكن، في ظل ضعف البيئة المؤسسية في العراق، وتفشي الفساد، وغياب الرؤية الصناعية، فإن مخاطر انزلاق هذه الاستثمارات نحو شكل من "الهيمنة الاقتصادية" تبقى قائمة، حيث تتحول الأسواق العراقية إلى امتداد استهلاكي للمنتج التركي دون أثر تنموي فعلي.
رابعًا: تركيا والاستفادة من الوضع العراقي – نفوذ اقتصادي برؤية سياسية
تمثل الأسواق العراقية اليوم منفذًا استراتيجيًا لتركيا، خاصة في ظل التحديات التي تواجه الاقتصاد التركي داخليًا، من تراجع الليرة، وتضخم مرتفع، وحاجة ملحّة لتعزيز الصادرات الإقليمية. ويُعد العراق من بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لتركيا، ما يعكس أهمية السوق العراقية في الاستراتيجية الاقتصادية التركية. إلا أن هذه العلاقة الاقتصادية لا تنفصل عن الرؤية السياسية الإقليمية لتركيا، حيث تسعى أنقرة إلى توسيع نفوذها في العراق اقتصاديًا بالتوازي مع حضورها الأمني والسياسي، خاصة في الشمال، وتعتمد على الفراغ المؤسسي والتجزئة السياسية في العراق لإبرام شراكات غير متكافئة تحقق مكاسب سريعة دون التزامات هيكلية. وهذا ما يجعل من العلاقة التجارية جزءًا من مشهد أوسع لما يُعرف بـ"الدبلوماسية الاقتصادية التوسعية" التي تعتمدها تركيا في دول الجوار.
خامسًا: غياب الاستراتيجية التجارية العراقية
من الجانب العراقي، تكشف هذه الأرقام والاتجاهات عن غياب سياسة تجارية وطنية تضمن التوازن وحماية المنتج المحلي. فلا توجد قيود جمركية تحفيزية لإحلال الواردات، ولا سياسات صناعية فعالة لتعزيز التصدير، كما تغيب آليات الرقابة على ميزان المدفوعات بما يحافظ على الاستقرار النقدي. هذا الفراغ يُنتج نمطًا من الانكشاف التجاري السلبي، حيث تتحول التجارة إلى وسيلة لتصريف الريع النفطي على شكل واردات استهلاكية، دون عائد استثماري أو إنتاجي.
بينما تُعد العلاقات التجارية مع تركيا فرصة اقتصادية للعراق، فإن الاستفادة منها تتطلب رؤية واضحة، ومؤسسات فاعلة، وسياسات حمائية ذكية، وإلا فإن التوسع في التبادل لن يكون سوى استمرار لنمط التبعية الريعية والاستهلاك غير المنتج. لتحقيق توازن حقيقي في هذه العلاقة، ينبغي على صانعي القرار في العراق ربط أي توسع تجاري باستثمارات إنتاجية حقيقية داخل البلاد، وتفعيل أدوات الحماية التجارية والتحفيز الصناعي المحلي، مع إعادة هيكلة السياسات الجمركية بما يخدم المنتج الوطني. كما سيكون من الضروري تأسيس هيئة وطنية لرصد الميزان التجاري واتخاذ قرارات دورية بناءً على مؤشرات دقيقة، إضافة إلى توجيه العلاقات الاقتصادية نحو بناء شراكات تعليمية وتكنولوجية طويلة الأجل، بدلاً من الاكتفاء بعلاقات استهلاكية قصيرة الأمد. إن ما تحتاجه بغداد ليس مجرد زيادة في أرقام التبادل التجاري، بل تغيير في طبيعة العلاقة نحو شراكة تقوم على القيمة المضافة، لا الفاتورة المتضخمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. مازن فيصل البلداوي

    منذ 6 شهور

    شكرا لهذا المقال في رسم شكل العلاقة الاقتصادية بين العراق وتركيا سيدتي. ويبدو ان مساحة التعليق هنا محدودة المدى.كل ما تفضلتِ به صحيح جدا من واقع التحليل الاكاديمي الذي لا يتطابق مع الرؤية السياسية العراقية. وكنت اود اضافة مشروع طريق التنمية الى نقطة ٤.

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram