TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نموذج TADEO... مفتاح إصلاح التعليم الجامعي في العراق

نموذج TADEO... مفتاح إصلاح التعليم الجامعي في العراق

نشر في: 17 يونيو, 2025: 12:02 ص

د. طلال ناظم الزهيري

منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، تبذل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق جهودًا حثيثة لانتشال الجامعات من واقع تعليمي لم يعد يلبّي الحد الأدنى من التطلعات. فالجميع يقرّ بأن هناك تراجعًا ملموسًا في جودة التعليم الجامعي، وهناك العديد من المؤشرات الدالة على ذلك، بدءًا من ضعف المخرجات الأكاديمية، وصولًا إلى تدنّي تصنيفات الجامعات العراقية في المؤشرات العالمية.من هذا المنطلق، لم يكن مستغربًا أن تتجه الوزارة نحو استكشاف نماذج وأنماط تعليمية جديدة، كان أبرزها اعتماد مسار بولونيا الأوروبي بوصفه نموذجًا حديثًا للتعليم العالي. وعلى الرغم من انتقال هذا الخيار من مرحلة التجريب إلى التطبيق الفعلي في بعض الجامعات، إلا أن التحفظات عليه كانت حاضرة منذ البداية. وقد كنت من أوائل من حذّر من محاولات إسقاط نموذج صُمّم لبيئة أوروبية مغايرة تمامًا من حيث السياقات الثقافية، والبنى التحتية، والأسس التربوية على نظامنا التعليمي. فمن غير المنطقي أن نبدأ بإصلاح التعليم من قمته – أي من الجامعة – في حين أن المراحل السابقة، كالتعليم المتوسط والإعدادي، ما تزال أسيرة مناهج تقليدية، وأساليب تدريس عفا عليها الزمن. إن غياب التكامل بين هذه المراحل التعليمية واختلاف أنماطها يَحول دون تحقيق ترابط معرفي وتربوي فعّال.ومع مرور الوقت، بدأت أصوات أكاديمية من داخل الجامعات تدعو إلى إعادة تقييم تجربة مسار بولونيا، وهو أمر متوقع، بل ومطلوب. لكن جوهر المشكلة لا يكمُن فقط في استيراد النماذج، بل في كيفية فهمنا لوظيفة التعليم ودوره في عالمٍ تغيّر جذريًا بفعل التحولات الرقمية.
البعض يختزل الأزمة في سيطرة التكنولوجيا على حياة الطلبة، ويرى فيها عامل تشتت وتراجع. بل إن بعض الأصوات تدعو إلى العودة لما أسمته "هيبة الورقة والقلم" وكأنها الوصفة السحرية لعلاج خلل مركب.شخصيًا، أرى في هذه النظرة اختزالًا سطحيًا للمشكلة؛ فالتكنولوجيا ليست موضع الاتهام، بل طريقة توظيفها تربويًا هي ما يستحق المراجعة. إننا بحاجة إلى نموذج تعليمي يستوعب التحولات الرقمية، ويعيد للطالب والأستاذ دورهما الحقيقي في العملية التعليمية. اما إذا كنا نبحث عن بديل واقعي، يمكنه التكيف مع بيئتنا، ويستوعب طموحات الجيل الجديد وأدواته، فإن نموذج TADEO التربوي يُعد من الخيارات الواعدة التي تستحق أن ننظر إليها بجدية.قد لا يكون هذا النموذج مألوفًا حتى الآن، لكن جوهره بسيط وعملي. نموذج TADEO هو إطار تربوي حديث يعتمد خمسة أركان أساسية:تبدأ معالتوجيه (Tutoring):ويقصد به أن "المعلم ليس ناقلًا للمعلومة، بل موجّه وميسر". هذا التحول في الدور التربوي يعني أن الأستاذ الجامعي لم يعد مجرد مصدر للمعلومة، يُلقّن الطلبة ما يجب حفظه، بل أصبح مسؤولًا عن تمكينهم من اكتشاف المعرفة بأنفسهم، عبر التوجيه، وطرح الأسئلة، وتوفير بيئة تعليمية تحفّز على التفكير النقدي والتعلم الذاتي. فبدلًا من تقديم الحلول الجاهزة، يطرح المعلم مشكلات واقعية ويدفع الطلبة للبحث والنقاش وتحليل المعلومات. في مشروع بحثي مثلًا، لا يُملي الأستاذ على طلابه ما يكتبونه، بل يساعدهم في تحديد المشكلة، اختيار المصادر، وتنظيم الأفكار، ليصلوا إلى نتائجهم بأنفسهم. هذا النهج لا ينمّي المعرفة فقط، بل يُعزز الاستقلالية، ويُعدّ الطالب ليكون فاعلًا في مجتمعه وسوق العمل، لا مجرد حافظٍ لمعلومات.ويكمل نموذج TADEO عناصره الأخرى بأسس تربوية لا تقل أهمية. فـالمرافقة (Accompaniment)، على سبيل المثال، تؤكد أن العلاقة بين الأستاذ والطالب لا يجب أن تقتصر على قاعة المحاضرة، بل تمتد إلى الدعم الإنساني والمتابعة النفسية، خصوصًا في بيئات جامعية تواجه تحديات اجتماعية وضغوطًا كبيرة. الطالب في هذا النموذج ليس رقمًا في سجل، بل فرد له احتياجات وظروف ينبغي فهمها ومراعاتها
.أما الحوار (Dialogue)، فهو حجر زاوية آخر، يعيد الحياة إلى قاعات الدراسة الجامدة. حين يُفتح المجال أمام الطلبة للتعبير عن آرائهم، وطرح أسئلتهم، ومناقشة الأفكار، فإنهم يتحولون من متلقّين إلى شركاء في إنتاج المعرفة. وهذا ما تحتاجه جامعاتنا اليوم: مساحات للنقد والتفكير لا للخضوع الصامت.ثم يأتي التقييم (Evaluation)، الذي يُعيد تعريف الامتحانات والتقديرات، بحيث لا تكون أداة لإقصاء الطالب أو تصنيفه، بل وسيلة لرصد تطوره وفهم احتياجاته التعليمية. فالتقييم هنا ليس نقطة نهاية، بل نقطة انطلاق جديدة، تُبنى عليها مراحل أخرى من النمو والتحسين.وأخيرًا، لا يكتمل هذا الإطار دون التنظيم (Organization)، أي إدارة المحتوى والأنشطة التعليمية بطريقة مرنة وذكية. تنظيم المحاضرات، توظيف المنصات الرقمية، تنويع أدوات العرض والتفاعل، كل ذلك يجعل التعليم أكثر قابلية للحياة، وأكثر جذبًا للطالب.بهذه الركائز الخمس، يقدم نموذج TADEO تصورًا تربويًا متكاملًا، يُعيد الاعتبار لدور الأستاذ الجامعي، ويرتقي بالطالب من مستهلك سلبي إلى متعلم فعّال، قادر على التفاعل مع معارف عصره بثقة وكفاءة.هذا النموذج يعيد صياغة العلاقة داخل الجامعة: بين الطالب والأستاذ، وبين المعرفة والحياة، ويضع الإنسان في مركز العملية التعليمية، لا النظام ولا المادة العلمية فقط.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

فضيحة النشر الزائف والفساد الاكاديمي.. هل تستيقظ الوزارة بعد فوات الاوان؟

المرأة الفولاذية قدّمت شهادتها للتاريخ

العمود الثامن: لماذا يكرهون الدولة المدنية ؟

العمود الثامن: الثورة ومعارك الطائفية

العمود الثامن: "يم العباية"

العمود الثامن: من يدفع فاتورة إعادة المشهداني؟

 علي حسين إذا أردت أن تعرف كيف تُدار السياسة في بلاد النهرين، فإن مشاهدة اللقاء الأخير مع رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، تكفيك لتقف على أبعاد الخراب الذي عشنا فيه خلال السنوات الماضية....
علي حسين

قناطر: أوجاعُ من صعد الملحُ قلبه

طالب عبد العزيز الى/ سرمد الطائي مِنْ مُسْتَغْرَبِه بأربيل يبكي سرمد الطائيّ البصْريّ صِغرَ حجمِ حبّةِ رطبة البرحي، التي وصلته ممهورةً بالعطش، في تلميح الى ما تعانيه المدينة من الماء المالح، الذي اجتاح أنهارها...
طالب عبد العزيز

حكومة إقليم كردستان.. نجاحات كبرى وتحديات ثقيلة

علي البيدر لا يختلف اثنان على ان إقليم كردستان العراق يمثل الواحة الأكثر استقرارًا في الشرق الأوسط برغم الاحداث التي تشهدها المنطقة والتجاذبات السياسية التي خلقت اصطفافات يصعب النأي عنها، او حتى التعامل معها...
علي البيدر

نوافذ مفتوحة

د. أثير ناظم الجاسور من بديهات عمل صناع القرار التأسيس للدولة وفق متبنيات شخصية ونسق فكري ينطلق من فلسفة البناء والتحديث الى نهاية مفهوم راسخ يتمثل بتحقيق المصلحة الوطنية، وهذه الآلية تتم بالضرورة وفق...
د. أثير ناظم الجاسور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram