TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حجّـوا إلى أنفسـكـم

حجّـوا إلى أنفسـكـم

نشر في: 17 يونيو, 2025: 12:03 ص

أحمد حميد

يعتقد الوعي الديني العام، أن الجغرافيا الدينية، تلعبُ دوراً مهماً في عملية التطهير الذاتي للإنسان، وهذا الأمر نسبيّ وليس حتمياً. لذا، نرى أن الكثير من الساسة العراقيين، يتوافدونَ سنوياً إلى الديار المقدسة، لأداءِ مناسك الحج، بحثاً عن الغذاء الروحي لذواتهم الملوثة بمناخ الفساد، وسعياً لتهدئةِ قلقِ الضمير الديني، إن كان فاعلاً لديهم. جشع الطبقة السياسية، وصلَ إلى حدِ منافسة العامّة من الناس على مقاعد الحج، وهذه المنافسة حَرَمَت من هم بخريفِ العمر، من معالجةِ السأمِ الوجودي، الذي يرافقهم في أواخر حياتهم. لكنَّ الفساد "المقدس" أخذَ يتمدد حتى على الامتيازات المعنوية للعراقيين، بعدما تمكنَ واستحَكمَ من امتيازاتهم المادية. شخصياً، أرى أنَّ الحجَّ ليس عاملاً محورياً في فلسفة الارتباط بالسماء، ولا المكان يلعبُ دوراً في محوِ الذنوب، والتقرّب إلى الله. الحجُّ أمرٌ ثانوي، لذا قالَ جلّ علاه (من استطاعَ إليهِ سبيلا). العامل المحوري في تلك الفلسفة، يكمنُ بالعمل الصالح - أقصد بهِ الفعل الإنساني الميداني المباشر على وجه التحديد- وهذا العمل لا ينطلق إلا من ركيزة إيمانية كامنة في القلب. القلب الذي هو وعاء الرحمة، والعطف، والاعتقاد. وعاءٌ لا يَطهر إلا بالتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل، وصولاً إلى مرحلة التجلي، مرحلة لا يصلها سوى السالكينَ والعارفينَ بطرقِ وأزقةِ السماء. ليس اعتباطاً أن يكمن محور الإيمان في القلب، الذي من الممكن أن يشهدَ حضوراً يومياً لله، بينما قد لا تجد ذلك الحضور في البيت الحرام، الذي يأتيهِ الناس من كلِّ فجٍ عميق. نلمسُ في الواقع، جهلاً دينياً مركباً، في عملية التعاطي مع الله، تعاطٍ مادي محض، قائم على فكرة المكان الذي نغتسلُ فيهِ من الذنوبِ و الأدران، و كأنَّ شلّالَ المغفرة لا ينزل إلا على أولئك "المحظوظين" بمقاعد الحج في كل عام.
تصوّرُ لنا وسائل الإعلام، كيف يرمي الحُجّاج بكل قواهم العضلية، أعمدةَ لشياطين، بحجارةٍ صخرية. بينما الواقع يؤكد الحاجة إلى أن نرمي شياطين أنفسنا، بحجارةٍ توقظُ فينا الإنسانية. لأنَّ المؤمن بحاجة إلى أن يعرفَ نفسه، ومن عَرِفَ نفسه، فقد عَرَفَ ربه، والمعرفة بالله قرينة المعرفة بالنفس، وبدونها لا ترتكز معادلة الإيمان، كما ورَدَ في الآية الكريمة (نسُوا اللهَ فأنساهم أنفسهم). أو بحسب ما رويَّ عن الإمام علي في قوله "كفى بالمرء معرفةً أن يعرفَ نفسه، وكفى بالمرء جهلاَ أن يجهلَ نفسه". و كذلك، ابن سينا الذي قالَ في رسائله: "أَنَّ الأَوائلَ كانوا مُكلفين بالخوضِ فِي معرفة النفس لِوَحيٍ هبطَ عليهم ببعض الهياكل، يقول: يا إنسان! إِعرِف نفسَكَ تَعرِف رَبَّك".
بالمحصلة؛ الحجّ، ليس شلالاً للمغفرة يحتكرهُ المترفونَ للاغتسالِ من ذنوبهم، بل التطهير الذاتي، يكمنُ في العمل الصالح، وهذا ما لا يدركهُ المنغمسون بالوعي التجاري للدين. وهذا الوعي مغاير لوعيٍّ آخر تبنتهُ رمزيات دينية كبيرة. رمزيات لم تذهب إلى الحجِّ مطلقاً. بعضها كان يرى في إغاثة المريض بالأموال المُخصّصة للحج، أهم من الذهابِ بها إلى الديار المُقدّسة، وذلك ما ورَدَ عن المرجع الديني الراحل شهاب الدين المرعشي النجفي(صاحب ثالث أكبر مكتبة في العالم الإسلامي). والبعض الآخر عاشَ الفقرَ الحاد، ولم يقترب من الأموال الشرعية في صندوقِ مرجعيته، وذلك الأنموذج كان في المرحع الشهيد محمد صادق الصدر. فضلاً عن أنَّ هناك رمزيات اكتفت بالحجِّ لمرةٍ واحدة، وهذا ما اكتفى بهِ المرجع السيستاني، الذي قلَّ نظيرهُ في الزهدِ وصفاء النفس. أكتبُ هذا المقال، ويردُ إلى ذهني قولٌ للإمام الباقر (عليه السلام): ما أَكثرَ الضَّجيج وَ أَقلَّ الحَجيج. فعلى "الحُجّاج السياسيين"، التأمل في ذلك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram