طالب عبد العزيز
يقولُ الابنُ لأبيه الشيخ: أينَ أضعُ الزهورَ يا أبتِ؟ فيقول الأب: في مكانها القديم يابني! في مكانها القديم...
كلُّ الأمكنة قديمةٌ يا أبتِ.
- إذن، ضعها في مكانها الجديد!
- ليس هناك من مكان جديد، سأتركها في النافذة، هناك مَنْ يأنس بها.
- لا، أبداً، أبداً.. المغادرون لا يدعون نوافذهم مشرعة، لكن،
إذا كان لا بدَّ من مكان، خذها معك، وأمنحها لمن تصادفه على الطريق..
فتاة غدر بها حبيبُها، فهي حزينة الآن، امرأة قُتل زوجُها في معركة أخيرة،
هناك الكثير، الذين يجدون حياتهم في باقة الزهور هذه.
خذها يا بني، ما عدتُ بحاجة الى الزهور، إنْ تركتها قرب رأسي على السرير؛ ستأتي الخادمة وتلقي بها في سلة النفايات، المكان الأبديُّ، الضامن لكل الباقات القديمة.
**
في رسائله الى دون كيشوت يكتب يوسف الخال:" أيّها الشعراء ابتعدوا عنّي. لا ترثوا أحداً غلبه الموتُ. ولأنَّ الموت يحيق بنا من كلِّ صوب، ونصادفه في نأمة الحياة، وفي حلم الفجر، أيضاً سيكون صوتُ فيروز أولى بالانصات والتأمّل.
- في متصفح الهاتف عندي الكثير والطويل منه.
- المُسْ يابني الزّر هذا، الذي لا أتبينه الآن، ودع الهاتف مائلاً، لتكبر الصورةُ، أريد أن أجدَ في الأمكنة التي تشملها عين الكاميرا بعطفها موضعاً لباقة الزهور التي تأتيني من الصوت الملائكي ذاك.
يطيلُ الابُ السماع والنظر في شاشة الهاتف، تأخذه العوالمُ الجميلةُ بعيداً، ويمدُّ يداً كانت واهنةً، فتدنو باقة الزهور منها قليلاً. تنتفضُ الافوافُ والاوراقُ التي ذبلت من ساعتين، ويضوع في الغرفة ما يشبه العطر. كان الابُ يحلم!
- الأمكنة جميلة يا بني، والصوت الفيروزي يضفي عليها مخملاً من ضوء وعطر. أنا سعيد بهذه، كما لو أنني أخرجُ بملاءة جديدة؛ لكنني، أرى الكثيرَ من السرو والثلج على الطرقات، وحيث تجول الكاميرا، أهذه بلادنا؟ إنْ كانت كذلك؛ لمَ تخلو الشوراعُ العريضةُ في ساعات الصباح الجميل هذا؟
ولماذا تضعُ الفتياتُ الخُمُرَالسودَ على رؤوسهن، فيحتجبن، مع أنَّ الصوت والمشاهد تنسجم والمباهج؛ من هذا الذي يخبئن شعورهنَّ لأجله؟ أنا لا أرى الفتيان الذاهبين الى المدرسة، ولمن تختفي الحقائبُ الملونة الصغيرة، لا باصاتٌ صفر، ولا باعةٌ للفاكهة، ولا حارسُ عائد، أين الناس؟ هل أخذت الحربُ بأسبابهم يابني؟
- لا يا أبتِ، لا شيء من ذلك كله، نحن في مدينة أخرى، ليست من شرقنا العربيِّ بشيء؛ مغتربٌ من أهلنا في الجنوب، يحسنُ تدبيج وبرمجة الصورة مع الصوت فعل ذلك كله.
- لكنَّ الصوتَ لفيروزنا يا بني!
- نعم، يا أبتِ، المبرمجُ رأى أنَّ مدننا لم تعد تليق بصوتها، فشوارعنا مازالت بتراب حروبها القديمة، ونساؤنا بثياب الحزن الى اليوم، فالحرب لم تنته بعد، واسواقنا موحشة متربة، وأطفالنا يبيعون أحلامهم في التقاطعات.. لذا، لم يعد صوتُ فيروز لائقاً بمدننا.
يطفئُ الأبُ شاشة الهاتف وينادي على ابنه أنْ إقرأ لي شيئاً مما كتبه دينو بوتزاتي في (صحراء التتار) ذلك لأنه رأى نفسه في روح الملازم الثاني جوفاني دروغو، الذي لم يدخل الحصن برغبته يوماً، لكنه، حين أطال المُكث هناك، أنِسَ الحصن والسور والناس وصوت خرير ماء الحوض ثم أنه بعد عشرين سنة، وأراد العودة، أطلَّ على الحصن يوماً، أراد أن يكتشف ما وراء السور، ما وراء الحصن، ما وراء الضباب.. فقد سئم الإقامة في أمكنةٍ لا معنى فيها لوضع باقة من الزهور.