TOP

جريدة المدى > عام > سرديّة الخلود الاصطناعيّ

سرديّة الخلود الاصطناعيّ

نشر في: 18 يونيو, 2025: 12:02 ص

د. نادية هناوي
تحتل سرديات الذكاء الاصطناعي موقعا أثيرا في مبيعات الكتب في الأسواق العالمية، بسبب ما لهذا الذكاء من تطورات متسارعة ومذهلة، وأيضا بسبب ما للتكهنات في تلك السرديات من أساليب تجذب فضول القراء نحو التعرف إليها عن كثب لاسيما في ما ستحققه مستقبلا من انجازات، وما ينتظر أن تؤديه من دور في حياتنا. ومن هذه الكتب(سرديات الذكاء الاصطناعي: تاريخ التفكير الخيالي في الآلات الذكية) حرره ستيفن كيف وكنتا ديهال وصدر عن جامعة اكسفورد عام 2020. واشتمل على دراسات عدة منها دراسة ستيفن كيف نفسه والموسومة(الذكاء الاصطناعي: الخلود الاصطناعي وسرديات العقل). وفيها يذهب إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي تقنية ستفتح -على المستوى التخييلي في الأقل- أبواب التقنيات الأخرى كلها. ويستند في هذا الطرح إلى ما صرَّح به ديميس هاسابيس مؤسس شركة "DeepMind," التقنية، حول مشروع الذكاء الاصطناعي قائلا: (إن حلُّ مشكلة الذكاء، يعني حلَّ المشاكل الأخرى جميعها كأمراض السرطان وتغير المناخ والطاقة والاقتصاد والأنظمة المالية والفيزياء وغيرها من المجالات التي تمثل تحديات ينبغي معالجتها بشكل كاف وتام بوساطة ذكاء اصطناعي عام وقوي).
انطلاقا من هذه الأبعاد، يرى "ستيفن كيف" أنَّ الذكاء الاصطناعي نوع من الكأس المقدسة، فهو متنوع بتنوع احتياجاتنا ورغباتنا كما أن الدوافع من وراء ذلك متعددة أيضا. وواحد من هذه الدوافع يتمثل في الرغبة في التغلب على الفناء. وإذا كان الذكاء الاصطناعي يعد نوعًا من "التقنية الشاملة"، فإن هذا الدافع يعد " شاملاً"، وشرطًا أساسًا لتحقيق الأغراض الأخرى تقريبا. ولا تعني سرديات الذكاء الاصطناعي القصص والروايات التي تناولت متخيلات الآلات الذكية حسب، وإنما أيضا التجارب الفكرية والكتابات غير الخيالية لباحثين ومؤلفين متخصصين بالذكاء الاصطناعي، تناولوا فيها واقع هذا الذكاء واستشرفوا آفاقه المستقبلية.
وفي إطار سردية الخلود، تغدو للذكاء الاصطناعي طرق عدة، يمكن بها استخدام آلاته الذكية في تحقيق حياة أطول بشكل جذري أو غير محدود. ويحدد ستيفن كيف واحدة من هذه الطرق، هي طريقة تحميل العقل(Mind Uploading) ويشرح طبيعتها بالقول:(أفحص كيف قُدمت الأعمال المؤثرة في الكتابات غير الخيالية، وخاصة تلك التي كتبها هانز مورافيك وراي كورزويل. وأولي اهتمامًا خاصًا لاستخدام هؤلاء الكتّاب للسرد لتعزيز مصداقية ادعاءاتهم. أبحث في كيفية تقديم الأعمال الخيالية، بما في ذلك أعمال ويليام جيبسون وغريغ إيغان وروبرت سوير وبات كاديغان ورودي روكر وكوري دكتورو. وروايات أخرى ناقدة لهذه الادعاءات. أركِّز على ثلاث مشكلات على وجه الخصوص، أطلق عليها مشكلات الهوية والثبات والركيزة. وفي الخاتمة، أؤكد أنه نظرًا لأهمية التجارب الفكرية، وهي نوع من السرد القصصي التأملي، في تطوير الحجة الفلسفية والتكنولوجية لمفهوم تحميل العقل، فإن أدب الخيال العلمي يقدم شكلا مهما يسمح بالنقد.)
وتعود الأعمال التي يعتمد ستيفن كيف عليها في الدراسة والتحليل إلى الأعوام من 1982 حتى العام 2017، وجميعها توضع تحت خانة(العصر الرقمي) أو ما يعرف في قاموس كامبردج بـ(الوقت الحاضر) حيث المعلومات مرقمنة في حواسيب ومدرجة ضمن ما يسمى (Techopedia) وتعني موسوعة تخزين المعلومات في حقبة ثمانينيات القرن العشرين وهي ترادف مقولة(عصر المعلومات) وتعد هذه الحقبة حاسمة، لأن فيها دخلت الحواسيب إلى المنازل وأماكن العمل، وتوسَّع استعمالها مما أدى إلى رقمنة البيانات بشكل جماعي، شمل مختلف جوانب الحياة اليومية بدءا من التسوق والتفاعل الاجتماعي، ووصولا إلى الأحلام القديمة المتعلقة بالخلود.
ويؤكد "ستيفن كيف" تحت عنوان(الذكاء الاصطناعي ومشكلة الفناء) أنَّ الفناء يلعب دور رئيسا في تشكيل معتقداتنا. تدل على ذلك وفرة الأعمال التي تؤمن بالخلود. وما من ثقافة من ثقافات العالم تخلو منها فضلا عن مجموعة كبيرة من الأبحاث والتجارب التي تدعم فرضية أن لدى الناس دافعا قويا لتبني استراتيجيات أو معتقدات تنكر الموت، سواء كان ذلك من خلال تأجيل نهاية الحياة إلى أجل غير مسمى أو من خلال الاقتناع بأن هذه الحياة مجرد مقدمة لحياة أخرى.
تُعرف هذه الفرضية باسم(نظرية إدارة الرعب (Terror Management Theory وهي مدعومة بأكثر من 400 دراسة. وتقوم الفرضية على فكرة رئيسة هي أن رؤانا المتنوعة للعالم قد تطورت باتجاه إدارة الرعب الناجم عن وعي البشر الفريد بالموت. ومن المتوقع أن تقدم رؤية للعالم مبنية على فعالية العلم والتكنولوجيا بأشكالها الخاصة في إنكار حدوث الفناء.
فمنذ فرانسيس بيكون، ارتبط المشروع العلمي التكنولوجي بتحقيق السيطرة على الطبيعة، والموت هو جانب من جوانب الطبيعة، ويشكل أكبر تحدٍ لإرادة الإنسان. ووفقًا لذلك، سجَّل عدد من المؤرخين وعودا في التغلب على الموت كموضوع متكرر في الخطاب العلمي والتكنولوجي، ابتداءً بالآمال المبالغ فيها في علاجات الهرمونات وليس انتهاءً بالقوى العلاجية المفترضة للفيتامينات.
تظهر دراسات عديدة ضمن إطار(نظرية إدارة الرعب) أنَّ الإيمان بالتقدم العلمي والتكنولوجي بشكل عام، مدفوع جزئيًا بالخوف من الموت. وإمكانية أن يؤدي ذلك إلى إطالة الحياة بوجه خاص. وإذا عددنا الذكاء الاصطناعي التقنية الرئيسة والاختراع الأخير الذي يحتاجه البشر على الإطلاق، فإن من غير المفاجِئ أن نجده – بحسب ستيفن كيف - يُستخدم كاستراتيجية في القضاء على الفناء والتغلب عليه، مؤكدا أن مثل جميع استراتيجيات الخلود، ينبغي على استراتيجية الذكاء الاصطناعي أن تعالج مشكلة الجسد. ومعلوم انه مهما حاولنا العناية بأنفسنا، ومهما حاولنا الحفاظ على صحتنا ولياقتنا، فإن أجسادنا تتحلل وتفشل حتمًا. بالنسبة لشخص يسعى للخلود، ينبغي عليه تحويل جسده إلى شيء يستطيع مقاومة الزمن أو أن يحقق عملية تجاوزه بالمطلق. وبطبيعة الحال، ركَّز المشروع التكنولوجي على التحول أما بالتحصينات أو بالأطراف الصناعية. ومع ذلك، يقدِّم الذكاء الاصطناعي إمكانية لكل من التحول السايبورغي Cyborgization وتحميل العقل Mind uploading.
في النسخة المعتمدة على استراتيجية الذكاء الاصطناعي للتحول، يتم تحويل الجسد من حالته البيولوجية الهشة إلى شيء أكثر ديمومة. تعتمد هذه الفكرة على أنَّ البشر عبارة عن آلات متطورة، مثل سائر الآلات الأخرى، يمكن إصلاحها عند تعرضها للخلل. وخلال عملية الإصلاح، يتم استبدال الأنسجة العضوية الهشة بأجزاء ميكانيكية تؤدي نفس الوظيفة من دون اكتراث لهشاشة الجسد. وهذا هو ما يعنيه مفهوم التحول او "التسبيرغ " أي الانتقال إلى صيغة السايبورغ. في هذه العملية، يتحول الكائن العضوي إلى آلة ذكية، وتستمر العمليات الأساسية للحياة من دون انقطاع.
أما في عملية التحميل، فيحدث العكس تقريبًا. إذ بدلاً من التحول التدريجي، يفترض التحميل قفزة إلى حالة أخرى؛ قفزة يتم فيها التخلص من الجسد تماما كمثل التخلص من الملابس البالية. يقول كيفن لاغراندير: (الحلم النهائي للسايبرنيتيك ما بعد الإنسان هو تحميل الحاجات الجسدية بجعلها غير ضرورية عن طريق تحويل الكائن البشري إلى عقل خالص وموزع).
يتطلب هذا السيناريو وجود شكل جديد لاحتواء الذات الساعية إلى البقاء، مثلها مثل جهاز قادر على تجسيد العقل البشري. هنا، يصبح الحاسوب غير الحي عضويًا ويتحول إلى كائن حي يسعى إلى البقاء.
يشبه "ستيفن كيف" هذا التمييز بـ" السيناريو المروع التقليدي المؤلف من مرحلتين"، حيث يتم تحقيق الخلود أولاً في مرحلة "عصر الروبوتات"، وثانيا في مرحلة تحميل العقل في الفضاء السيبراني. وبينما يُمكن التمييز بين التحول والتحميل، فإنهما يشكلان طيفًا يتدرج من إنسان مزود بتحسينات بسيطة وصولًا إلى أفاتار رقمي بالكامل، مستقل عن البيولوجيا.
ولكي يحدد "ستيفن كيف" الأسس التي منها تتشكل سردية الخلود الاصطناعي، يقف عند كتاب(دين التكنولوجيا) 1997 وفيه يعالج المؤلف ديفيد نوبل العلاقة بين تطلعات الذكاء الاصطناعي والرغبة البشرية الدائمة في الخلود من خلال ثنائية ديكارت العقل/ الجسد، متخذا منها محطة مهمة للفصل بين الخالد والإلهي من جهة، والفاني والمادي من جهة أخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عبد الستار ثامر

    منذ 4 أسابيع

    متميزة بمقالاتك و موضوعاتك دكتورة ، دمت وسلمت.

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

التأريخ والتاريخ في رواية مغمورة

شخصيات اغنت عصرنا..الرسام الأوسترالي سدني نولان/ Sidney Nolan

مذكّرات راباسّا: الترجمة الجيدة هي أولا قراءة جيدة

رواية "مطلوب" لفيليب كلوديل: عندما يُجنّ أسياد العالم!

الكاتب الانجلو-باكستاني حنيف قريشي: حتى بعد أن بلغت السبعين وأصبحت معاقًا، لا أزال أجد العالم مضحكًا!

مقالات ذات صلة

حركة الشعر الحر: مواقف وتأثيرات
عام

حركة الشعر الحر: مواقف وتأثيرات

د. نادية هناوي لم تكن حركة الشعر الحر، قد بدأت بوادرها أواخر عام 1947، مجرد قصيدة نُشرت، فعُدت شعرا حرا، ولا هي سبقُ شاعرٍ لواحدٍ آخر. ولا هي مجرد تحرر الشعر من صرامة الوزن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram