TOP

جريدة المدى > سياسية > هل تختفي حضاراتنا القديمة بسبب تغير المناخ؟

هل تختفي حضاراتنا القديمة بسبب تغير المناخ؟

نشر في: 18 يونيو, 2025: 12:07 ص

 بغداد – تبارك عبد المجيد

تحت حرارة الصيف اللاهبة، وبين رياح محملة بالغبار، تقف الآثار القديمة في العراق مكشوفة لتقلبات الطقس وتغيراته المفاجئة. مع مرور الوقت، بدأت هذه المواقع تفقد ملامحها شيئاً فشيئاً، وسط تساؤلات متزايدة عن قدرة البيئة على حفظ ما تبقى من حضارات تعود لآلاف السنين، ومخاوف من محوا تلك الاثار في ظل غياب الدعم الحكومي.

كيف أثرت البيئة على الآثار؟
في حديثه عن علم الآثار، يوضح مدرس مساعد في الجامعة العراقية في قسم الاثار مثنى الهنداوي، أن علم الاثار يختلف جوهرياً عن علم التاريخ، رغم وجود بعض التشابه بينهما. فبينما يهتم التاريخ بتوثيق الأحداث وتسجيلها، يركز علم الآثار على دراسة البقايا المادية التي خلفها الإنسان، والتي تشكل مرآة لحضارات سادت ثم بادت. وبرغم غياب تعريف جامع مانع للآثار، إلا أن أقرب تعريف متفق عليه هو أنه "العلم الذي يهتم بدراسة البقايا المادية للإنسان".
يضرب العراق القديم، وتحديداً حضارة بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا)، مثالا على أثر البيئة الطبيعية في نشأة الحضارات. إذ لعب نهرا دجلة والفرات، مع فروعهما، دوراً محورياً في ظهور الحضارة العراقية القديمة. فوجود مصدر مائي دائم أدى إلى الاستقرار الاقتصادي وزيادة الإنتاج الزراعي، ما ساعد على ازدهار الحياة وزيادة عدد السكان. ويشبه الهنداوي هذه الظاهرة بما حدث في مصر القديمة، حيث ساهم نهر النيل في ازدهار حضارة مماثلة.
ويشير الهنداوي لـ(المدى)، إلى أن البيئة كانت عنصراً حاسماً في تكوين الهوية المعمارية لحضارة العراق القديم، حيث اعتمد البناء بشكل رئيسي على الطين (اللبن أو الآجر)، بخلاف بعض الحضارات التي استخدمت الحجر بكثرة. وقد أدى هذا الاعتماد على الطين، بمرور الزمن، إلى تعرض المباني القديمة للاندثار، ما لم تُجر لها عمليات ترميم مستمرة.
ويُبرز الهنداوي اهتمام العراقيين القدماء بصيانة معابدهم وقصورهم، حيث كانوا يضعون ما يُعرف بـ"حجر الأساس" في صندوق من اللبن أو الآجر، يحتوي على تماثيل ونصوص توثق اسم الباني، وتوصي الملوك اللاحقين بالحفاظ على البناء وإعادة النصوص إلى مكانها الأصلي في حال تجديد البناء. وكانت هذه النصوص تُرفق غالباً بلعنات موجهة لأي من تسوّل له نفسه العبث بها، في محاولة لحماية الإرث المعماري وربط الخلود بالعمل، لأن الموت كان يُعد أمراً حتمياً في معتقدات العراقيين القدماء.
ويبرز الهنداوي كيف أن المفاهيم البيئية كانت حاضرة في وعي الإنسان العراقي القديم، ليس فقط في البناء، بل حتى في العقيدة. فقد جسد العراقيون القدماء قوى الطبيعة في هيئة آلهة، مثل إله المطر والعواصف، وغالباً ما يُصور حاملاً صاعقة برق. هذا التجسيد يعكس فهمهم العميق لتأثير المناخ على حياتهم اليومية وطقوسهم الدينية.
وفي سياق التمييز بين أنواع الآثار، يوضح الهنداوي أن هناك "آثارامنقولة" مثل التماثيل الصغيرة، العملات، الأختام، والمخطوطات، وهي قابلة للنقل من موقعها الأصلي، في مقابل "ااثار غير منقولة" مثل الأبنية، المعابد، والقصور، التي تمثل صروحاً حضارية قائمة.
يتحدث د الهنداوي أيضاً عن التحديات المعاصرة التي تواجه السياحة والآثار في العراق، وعلى رأسها التغيرات المناخية وشح المياه. فارتفاع درجات الحرارة، خاصة في أشهر الصيف، يعوق حركة السياح، ويؤثر على البيئة المحيطة بالمواقع الأثرية. فعلى سبيل المثال، زيارة مدينة أور في شهر تموز تُعد تحدياً حقيقياً بسبب شدة الحر.
ومن أبرز الأمثلة على تداخل البيئة الطبيعية مع التراث الثقافي ما تشهده "أهوار جنوب العراق" التي تم إدراجها في قائمة التراث الإنساني العالمي لدى اليونسكو. إذ تمثل الأهوار نموذجاً فريداً يجمع بين الطبيعة الغنية والمواقع الأثرية القديمة. غير أن أزمة المياه تهدد هذا التراث، نتيجة انخفاض الحصص المائية الواردة من دول الجوار، وبناء السدود التي تقطع مجرى نهري دجلة والفرات.
ويؤكد الهنداوي أن الحفاظ على هذه البيئة ضرورة لا تقتصر على حماية التراث فقط، بل تمتد لتشمل الأمن المائي والزراعي والغذائي للعراق. ويرى أن الحل يكمن في إدارة المياه بشكل أكثر عدالة وكفاءة، وزيادة التشجير حول المواقع الأثرية لخلق “أحزمة نباتية” تحد من آثار الحر الشديد، وتوفر بيئة أكثر ملاءمة للسياح والمواطنين على حد سواء.
يربط مثنى الهنداوي الماضي بالحاضر، مؤمناً بأن فهمنا العميق للبيئة وتأثيرها عبر العصور سيمكننا من حماية ما تبقى من كنوزنا الحضارية. فالعراق، بأرضه وتاريخه، يملك من الإرث ما لا يقدر بثمن، غير أن الحفاظ عليه يتطلب رؤية استراتيجية تتعامل مع التحديات المناخية، وتضع الآثار والسياحة ضمن أولويات التنمية المستدامة.
من جانبه، قال مصطفى الغزي، التدريسي في جامعة واسط وممثلها لشؤون التراث الثقافي، إن العراق يعد مهداً لأقدم الحضارات الإنسانية وأكثرها أصالة، كالحضارة السومرية والبابلية والآشورية وغيرها، وإن شواهد هذا الإرث العظيم لا تزال قائمة في أكثر من خمسة عشر ألف موقع أثري تنتشر في مختلف أنحاء البلاد، منها مواقع ذات قيمة استثنائية تمثلت بإدراج ثمانية منها على لائحة التراث العالمي لليونسكو، بالإضافة إلى أربعة عشر موقعاً آخر على اللائحة التمهيدية، وسط جهود مستمرة من الجهات المختصة لتأهيل المزيد منها وتهيئتها للإدراج مستقبلاً.
وأكد الغزي لـ(المدى)، أن المواقع الأثرية في العراق لا تمثل مجرد بقايا تاريخية، بل تعد ذاكرة الشعوب الحية، وجزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية العالمية، لما لها من دور في توثيق مسيرة التقدم الفكري والمادي للإنسان"، مشيرا الى ان "أن هذه المواقع تواجه اليوم تهديداً متزايداً وخطيراً يتمثل في التغيرات المناخية، التي بدأت تترك آثارها السلبية الواضحة على البنية الفيزيائية للآثار، من خلال تعرضها المباشر والمستمر للظروف الجوية القاسية".
وأوضح أن المسببات الرئيسة لهذه التغيرات تعود إلى النشاط الصناعي المكثف، وسوء استخدام مصادر الطاقة، وتراجع النشاط الزراعي، وإزالة الغطاء النباتي، إلى جانب التلوث البيئي، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن البيئي الطبيعي، وبالتالي ارتفاع درجات الحرارة، وتذبذب كميات الأمطار، وزيادة معدلات الرطوبة والتبخر، فضلًا عن تصاعد العواصف الغبارية وانتشار الغبار العالق في الأجواء.
وأشار إلى أن هذه العوامل المناخية تؤثر بشكل مباشر على سلامة المعالم الأثرية، إذ تساهم في تسريع عمليات التجوية الكيميائية والفيزيائية، مثل الإذابة، والأكسدة، والتميؤ، والتكربن، والتعرية، ما يؤدي إلى تشققات في الأسطح، وانهيارات جزئية، وهبوط في التربة، وارتفاع نسب الملوحة، فضلاً عن زحف الكثبان الرملية، التي تغطي أجزاء كبيرة من المواقع، وتتسبب في اندثار معالمها تدريجياً.
وبيّن الغزي أن العديد من المدن والمواقع الأثرية الشاخصة تضررت بالفعل بسبب هذه الظواهر، منها مدينة أوروك، ومدينة أور، وبابل، وآثار عقرقوف، وطاق كسرى، ومدينة واسط الأثرية، وسامراء، معبّراً عن أسفه لكون هذه المواقع، التي تشكل ركائز الهوية الثقافية والحضارية، أصبحت عرضة للتهالك والانهيار بسبب الإهمال، وغياب المعالجات العلمية والتقنية اللازمة لمواجهة آثار التغير المناخي.
ودعا الغزي إلى ضرورة أن تتصدر مشكلة التأثيرات المناخية على الآثار أولويات الجهات المعنية، مشدداً على أهمية تبني سياسات تنموية متكاملة تراعي هذا التحدي، وعلى دور الهيئة العامة للآثار والتراث في تنسيق الجهود بين الجهات الحكومية الأخرى، والمنظمات الدولية، والجامعات المتخصصة، من أجل وضع وتنفيذ خطط حماية متقدمة.
وختم حديثه بالتأكيد على أهمية اعتماد وسائل وتقنيات حديثة في مجالات الصيانة والترميم والتأهيل الوقائي، لضمان الحفاظ على هذه المواقع كإرث إنساني فريد لا يمكن تعويضه، يمثل ليس فقط ذاكرة العراق، بل ذاكرة البشرية جمعاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

مقالات ذات صلة

لأول مرة بعد الانتخابات…
سياسية

لأول مرة بعد الانتخابات… "الإطار" يتسلّم "قائمة مرشّقة" لمرشحي رئاسة الحكومة

بغداد/ تميم الحسن للمرة الأولى منذ قرابة شهر، يتلقى "الإطار التنسيقي" قائمة شبه نهائية بأسماء المرشحين لمنصب رئيس الحكومة المقبلة. ورغم هذا التطور، لا تزال الافتراضات بشأن موعد حسم مرشح رئاسة الوزراء غامضة، مع...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram