د. اسامة شهاب حمد الجعفري
الموازنة العامة الاتحادية مسألة اجتماعية, مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعيشة الجماهير, والتأخير في تشريعها يعني ازمة اجتماعية, ولطالما عانى المواطن العراقي من تلك الازمة دون وضع حد لتلك العادة السياسية. وهذه المرة طُرحت امام المحكمة الاتحادية بدعوى من احد النواب بسبب تأخر الحكومة ارسال جداول السنة المالية 2025 الى البرلمان . فهل ستحسم هذه المحكمة تلك الازمة وتلزم الحكومة بارسال هذه الجداول؟ ولغرض الاحاطة الكاملة بهذا الاستقراء لابد من تقسيمه الى ثلاث محاور: ندرس في الاول: اختصاص المحكمة الاتحادية بقضايا الموازنة العامة. ونبحث في الثاني: تأخر اقرار الموازنة الاتحادية كحالة عامة . ونتناول في الثالث: تأخر جداول السنة المالية 2025 كحالة خاصة
اولاً: اختصاص المحكمة الاتحادية بقضايا الموازنة العامة :
لا ينحصر اختصاص المحكمة الاتحادية العليا بالرقابة على دستورية القوانين, ولا بتفسير الدستور, وانما يمتد نحو الفصل في القضايا الناشئة عن تطبيق القوانين الاتحادية حسب المادة(93/ثالثاً) من الدستور. وحيث ان قانون الادارة المالية الاتحادية رقم 6 لسنة 2019 المعدل المختص بتنظيم اعداد الموازنة وتحديد مواعيد اقراراها هو قانون اتحادي, وقانون الموازنة العامة نفسه من القوانين الاتحادية بحسب المادة (1/ثانياً) من قانون الادارة المالية الاتحادية, فان القضايا الناشئة عن تطبيق هذين القانونين يكون من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا. وعدم احترام المواعيد القانونية لاقرار الموازنات العامة واحد من اهم هذه القضايا التي تدخل في اختصاص تلك المحكمة.
اضافة الى إن الموازنة العامة لا ينظر إليها إلا بكونها مسألة اجتماعية, ترتبط بإنفاذ الحقوق الدستورية للمواطن العراقي, وعدم تشريعها او تأخرها يعني ان تكون تلك الحقوق عرضة للانتهاك والتعطيل, مما يلحق الضرر بعامة الشعب, واذا تعلق الامر بالحقوق الدستورية للشعب فإن بسط حماية تلك الحقوق هي الوظيفة الاساسية للمحكمة الاتحادية العليا, ومن ثم يعد اختصاص المحكمة بقضية تأخير ارسال الموازنة العامة اختصاص اصيل لانها تمثل الترجمة العملية لحقوق الشعب في البرنامج الحكومي. فالبرنامج الحكومي الحقيقي ليس ما يعلنه رئيس الوزراءعند تقديم كابينته الوزارية وانما ما يقدمه من موازنات عامة اثناء ولايته.
ثانياً: تأخر اقرار الموازنة الاتحادية كحالة عامة
الاصل: الزامية موعد اقرار الموازنة الاتحادية , الموازنة العامة "خطة مالية لبرامج الحكومة" بحسب تعريف المادة (1/ثانياً) من قانون الادارة المالية رقم 6 لسنة 2019 المعدل, وان عدم اقرار الموازنة او تأخير اقرارها يعني ان الحكومة بلا برامج حقيقية, ولايمكن ان تكون الحكومة بلا برامج, الا اذا كانت حكومة تصريف أعمال. لذا لا تملك سلطة تقديرية في تحديد موعد اقرار الموازنات فالاصل وفق المادة (11) من قانون الادارة المالية الاتحادية ان مجلس الوزراء ملزم باقرار الموازنة وجداولها قبل (15 تشرين الاول) من كل سنة, اي قبل ان تبدأ السنة المالية الجديدة بشهرين ونصف. وهذا الموعد الزامي لا تنظيمي . ويجب ان يكون هذا الموعد هو الاصل في عملها. وبعد ذلك لمجلس الوزارء سلطة تقديرية كاملة في تقدير جداول الموازنة على اساس معيارين (التنمية المستدامة) و(المخاطر) بحسب المادة (4/اولاً) من قانون الادارة المالية رقم 6 لسنة 2019 لكي تكون للدولة موازنة عامة اتحادية تتناسب والوضع المالي للدولة (نفقات-ايرادات) وللحكومة السلطة التقديرية في ذلك.
الاستثناء: عدم الزامية موعد اقرار الموازنة بحالات استثنائية قد يمر البلد بظروف طارئة تتصف بالخطورة وعدم التوقع فان المادة (13) من قانون الادارة المالية اجازت تأخر إقرار الموازنة الاتحادية" و"عدم اقراراها كحالة استثنائية, وتكون مهمتها بهذه الاحوال تصريف اعمال الحكومة وادارة مصالح الشعب, فعلى الرغم من ان القانون سمح بذلك الا انه لايمكن توسع العمل بها لانها حالات الاستثنائية خلاف الاصل, فالحالة الطبيعية هي وجود موازنة للدولة والحالة غير الطبيعية عدم وجود موازنة, والحالة الطبيعية هي الاصل وغير الطبيعية هي الاستثناء. ويشترط ان تكون الازمة لدرجة يتعذر على الحكومة تنفيذ برامج جديدة او الصرف على برامج سابقة, اما ان يكون لديها برامج كافتتاح مشاريع في مختلف الوزرات والمحافظات كالجسور والطرق والمباني وتنجز تعيينات وتتعاقد فانها دلائل عدم وجود ازمة مالية و انما دلائل للتهرب من اخضاع اعمالها لخطة مالية معلنة امام البرلمان والشعب, وتقدير وجود ازمة مالية تمنع الحكومة من اعداد الموازنات او التأخير في اعداداها بموعدها القانوني لا تنحصر بالحكومة فقط وانما للمحكمة الاتحادية العليا بما لها من ولاية العامة التحقق من وجود الازمة وتحقق شروطها بشكل واقعي من خلال اللجوء الى الخبرة بهذا الشأن.
ثالثاً: تأخر اقرار جداول السنة المالية 2025 كحالة خاصة
تأخر اقرار الموازنة الاتحادية او "عدم اقراراها "في الظروف الاستثنائية لا ينطبق الا في السنوات المالية التي ليس لها قانون موازنة يحكمها, اما اذا وجد قانون موازنة اتحادية سبق تشريعه فالاخير هو الذي يسري لا قانون الادارة المالية الاتحادية. ومن هنا فالجواز القانوني في التأخير لاقرار الموازنة لا ينطبق على جداول السنة المالية 2025 لان الحديث عن هذه الجداول لا يعني الحديث عن اقرار مشروع قانون موازنة جديد, وانما هذه الجداول هي جزء من قانون موازنة اتحادية لثلاث سنوات (2023-2024-2025) سبق تشريعها بقانون رقم 13 لسنة 2023, فلا يسري عليها قانون الادارة المالية رقم 6 لسنة لسنة 2019 المعدل, ومن ثم لا يبيح للحكومة باي حال من الاحوال ان تتأخر بارسالها للبرلمان, حيث ان جداول السنة المالية لعام 2025 خاضعة تماماً لاحكام قانون الموازنة الاتحادية لثلاث السنوات اتحادية (2023-2024-2025) رقم 13 لسنة 2023, بصريح المادة(77/اولاً) منه التي حددت نطاق سريانه لتلك السنوات, وبما انه قانون خاص وقانون الادارة المالية الاتحادية قانون عام, والقانون الخاص يقيد العام, فان نصه القانوني يغلَّب على نصوص القانون العام. وحيث ان المادة (77/ثانياً) الزمت مجلس الوزراء ارسال جداول السنة المالية 2025 قبل نهاية السنة المالية السابقة 2024 الى مجلس النواب للموافقة عليها, كموعد قانوني ملزم, فيكون مجلس الوزراء ملزم بارسال جداول 2025 الى البرلمان, ولا يحق له التأخر في ارسالها او عدم ارسالها..
وفي حال اصدرت هذه المحكمة قراراً يقضي بارسال جداول السنة المالية 2025 فان مجلس الوزراء يتحمل المسؤولية القانونية بشكل تضامني, وان عدم تطبيقه لقانون الموازنة العامة الاتحادية لسنوات المالية (2023-2024-2025) رقم 13 لسنة 2023 وعدم تنفيذه لقرار المحكمة الاتحادية العليا بهذا السياق, سيكون موقف مجلس الوزارء صعب جداً لانطباق المادة (329) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على اعضاءه والتي تقرر الحبس والغرامة لكل موظف اومكلف بخدمة عامة استغل سلطته لايقاف تنفيذ احكام القوانين والقرارات القضائية.