TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تكريم ضروري، تكريم متأخر

تكريم ضروري، تكريم متأخر

نشر في: 19 يونيو, 2025: 12:06 ص

علي بدر

يقف فخري كريم، في تلك اللحظة، وهو يلقي نظرة على نصف قرن من المجازفة بالكلمة، فهو الآن شاب في الثمانين من عمره، يقف في القاعة التي احتضنت قمة الإعلام العربي في دورتها الرابعة والعشرين بدبي، لم يكن مجرد ضيفٍ مدعو إلى تكريم، بل تجسيدًا حيويًا لذاكرة كاملة، تسلم نفسها أخيرًا إلى العلن. وحين نودي باسمه: "فخري كريم... شخصية العام الإعلامية"، كان الصوت لا يعلن فوزًا، بل يفتح بابًا على قصة بدأت في الأزقة المتمردة لبغداد، بين حروف "طريق الشعب" ونيران "الفكر الجديد"، وانتهت هنا على منصة مضاءة بكاميرات الفضائيات، تشهدها عيون العواصم التي طالما سافر إليها وتحداها.
صعد إلى المنصة، بهدوئه المعتاد، لكنه لم يخفِ تلك الرجفة الصغيرة التي تصيب المبدعين حين يصافحهم الزمن. خلف نظارته، كانت عيناه لا تريان الحضور، بل تستدعيان وجوهًا غادرت: رفاقًا، كتابًا، معتقلين، منفيين، وأحلامًا استهلكت حبر الحياة. كانت لحظة التكريم أشبه بجدارية يعلق فيها الماضي نفسه فوق صدر رجل، لا ليحتفل، بل ليتذكر أن المجد لا يمنح، بل ينتزع كلمة كلمة.
لم يكن جلوسه بين الصفوف الأمامية، قبل لحظة التكريم، انتظارًا فحسب، بل أشبه بتأملٍ في مرآة تتقاطع فيها صوره القديمة: شاب يرتدي القميص العسكري في معسكرات الجبال، رجل مطارد يهرب بأوراق المطبعة، ناشر يختار كتبًا لا تباع كثيرًا لكنها تضيء، وصاحب مشروع لا يريد أن يكون زعيمًا بل ضميرًا. كانت الجائزة، رغم بريقها، مجرد ذريعة للاعتراف بدور رجل أدرك منذ وقت مبكر أن الصحافة ليست مهنة، بل مصير، وأن الثقافة لا تصنع في مؤتمرات، بل تبنى، حجرًا فوق حجر، على شغف الإنسان بالحقيقة، مهما بلغت كلفتها.
لم يكن فخري كريم صحفيًا بالمعنى الكلاسيكي. كان صانع بنى، معمارياً يشيد المؤسسات كمن يشيد مدنًا، وهذه المدن-المؤسسات طالما أصبحت أوطناً للمنفيين واللاجئين والمقاومين. من "طريق الشعب" إلى "المدى"، مرت تجربته من مخاض الفكرة إلى جسد الدولة، من جملة افتتاحية في جريدة سرية إلى إمبراطورية ثقافية مفتوحة على الضفتين: العربية والكردية، الإسلامية والماركسية، الحداثية والتقليدية. لم يكن ابن مدرسة واحدة، بل ابن المراجعة، وخصيم التصلب الأيديولوجي، وحليف الجمال حيث وجد.
حين صافح الشيخ منصور بن محمد بن راشد آل مكتوم وابتسم للكاميرا، لم تكن الابتسامة براقة، بل عميقة، مضمَخة بوعي تاريخي نادر: لقد جاء اعتراف متأخر من العالم العربي بمن رفض أن يكون تابعًا له، وبمن لم يتخل عن حلمه حتى وهو يراه يبتلع من أنظمة ترفض التعدد ولا تدين بالحرية.
أعترف – أنا الذي تابعته مذ أطلق مهرجانات المدى في دمشق، حين تحولت العاصمة الخائفة إلى واحة فكر وموسيقى وكتب – أنني شعرت بفخرٍ نادر. رأيت فيه مشروعًا أكثر من شخص، ذاكرة أكثر من فرد، شجرة نبتت على ضفاف النهر العراقي، وتمددت أغصانها إلى كل المثقفين العرب الذين لم يجدوا بيتًا إلا في كتبه.
كان التكريم صامتًا في جوهره، فخري كريم لا يحب الاستعراض، لكنه – هذه المرة – قبل النور على خشبة المشهد. قبل أن يقال له: "شكرًا"، لأنه هو من كان يقول الشكر، منذ سنوات طويلة، لكل من كتب، ترجم، صدر فكرًا في زمنٍ يعاقب فيه الفكر.
ذلك اليوم، بدا لي كأن التاريخ نفسه يعتذر منه. وكأن الصحافة العربية التي استهلكت أعمار رجال كثيرين دون أن تعترف بهم، قررت أخيرًا أن تنحني لرجل كتبها، لا ليعجب بها، بل ليصحح مسارها.
في لحظة التكريم تلك، لم يكن فخري كريم يتلقى جائزة فحسب، بل كان يمنح اعترافًا متأخرًا من فضاء عربي طالما خاف من المثقف حين يتجاوز وظيفته الزخرفية. لقد وقف هناك لا كرمز حي لمهنة الصحافة فقط، بل كاستعارة لعراق آخر، عراق الممكن الذي لا يزال يقاوم، عراق الحلم الذي مر من زنزانات الشيوعيين ومجلات المنفى ومطابع بيروت، ثم استقر على هيئة مؤسسة اسمها "المدى"، لا تسأل عن هوية الكاتب، بل عن صدقه، ولا تفكر في أرباح المعرض، بل في أسماء الكتب المعروضة.
وحين نزل فخري كريم عن المنصة، بدا وكأنه يحمل الجائزة لا لنفسه، بل لكل الذين كتبوا وهم يعرفون أن أحداً ما سيقرأ، لكل الذين أسسوا مجلات سرعان ما صادرتها الرقابة، لكل الذين حلموا بدار نشر عربية حقيقية، لا تبيع الأوهام بل تطبع الأمل. كانت ابتسامته تلك لا تشبه ابتسامات المنتصرين، بل ابتسامة من أوفى ووفى، من ظل وفيًا لفكرٍ يعتقد أن الكلمة لا تزال قادرة على تهذيب العالم، وبث النور في نفسه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

فضيحة النشر الزائف والفساد الاكاديمي.. هل تستيقظ الوزارة بعد فوات الاوان؟

المرأة الفولاذية قدّمت شهادتها للتاريخ

العمود الثامن: لماذا يكرهون الدولة المدنية ؟

العمود الثامن: الثورة ومعارك الطائفية

العمود الثامن: "يم العباية"

العمود الثامن: "يم العباية"

 علي حسين مر صالح الكويتي في رحلاته الاغترابية الطويلة بمحطات كثيرة أولها الكويت التي ولد فيها لأب عراقي، والبصرة التي زارها عازفا للعود، وبغداد التي قرر الاستقرار فيها نهائيا منذ عام 1922 ثم...
علي حسين

موسكو تثير مسألة القدرات النووية الإسرائيلية

د. فالح الحمـراني أثارت الخارجية الروسية على لسان المتحدثة الرسمية باسمها ماريا زاخاروفا واحدة من قضايا منطقة الشرق الحساسة التي تطال المصالح الأمنية لدول منطقة الشرق الأوسط ولا سيما الدول العربية، والكلام يدور عن...
د. فالح الحمراني

متى يفقد النظام السياسي شرعيته؟

نصيف الخصاف شرعية النظام السياسي، أي نظام، تعني، حسب هابرماس 1979)) وجود أسباب وجيهة، للإعتراف بصحة وعدالة واستحقاق وجدارة النظام السياسي للحكم" فيما يعرفها بيثام (1991) بأنها "توافق عمل السلطات مع القواعد الشعبية المبررة...
نصيف الخصاف

الفرد القلق.. والنيوليبرالية الرأسمالية والسياسية

نبيل عبدالفتاح التطورات فائقة السرعة للمجتمعات الأكثر تطورًا فى عالمنا أدت إلى تغيرات كبرى متلاحقة، وفى مدى زمني محدود ومكثف جدًا فى الاكتشافات العلمية، والرقمية، والذكاء الاصطناعي التوليدى، وفى مفاهيم الزمن، والعمل، والأسرة، والفرد...
نبيل عبدالفتاح
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram