علي بدر
يقف فخري كريم، في تلك اللحظة، وهو يلقي نظرة على نصف قرن من المجازفة بالكلمة، فهو الآن شاب في الثمانين من عمره، يقف في القاعة التي احتضنت قمة الإعلام العربي في دورتها الرابعة والعشرين بدبي، لم يكن مجرد ضيفٍ مدعو إلى تكريم، بل تجسيدًا حيويًا لذاكرة كاملة، تسلم نفسها أخيرًا إلى العلن. وحين نودي باسمه: "فخري كريم... شخصية العام الإعلامية"، كان الصوت لا يعلن فوزًا، بل يفتح بابًا على قصة بدأت في الأزقة المتمردة لبغداد، بين حروف "طريق الشعب" ونيران "الفكر الجديد"، وانتهت هنا على منصة مضاءة بكاميرات الفضائيات، تشهدها عيون العواصم التي طالما سافر إليها وتحداها.
صعد إلى المنصة، بهدوئه المعتاد، لكنه لم يخفِ تلك الرجفة الصغيرة التي تصيب المبدعين حين يصافحهم الزمن. خلف نظارته، كانت عيناه لا تريان الحضور، بل تستدعيان وجوهًا غادرت: رفاقًا، كتابًا، معتقلين، منفيين، وأحلامًا استهلكت حبر الحياة. كانت لحظة التكريم أشبه بجدارية يعلق فيها الماضي نفسه فوق صدر رجل، لا ليحتفل، بل ليتذكر أن المجد لا يمنح، بل ينتزع كلمة كلمة.
لم يكن جلوسه بين الصفوف الأمامية، قبل لحظة التكريم، انتظارًا فحسب، بل أشبه بتأملٍ في مرآة تتقاطع فيها صوره القديمة: شاب يرتدي القميص العسكري في معسكرات الجبال، رجل مطارد يهرب بأوراق المطبعة، ناشر يختار كتبًا لا تباع كثيرًا لكنها تضيء، وصاحب مشروع لا يريد أن يكون زعيمًا بل ضميرًا. كانت الجائزة، رغم بريقها، مجرد ذريعة للاعتراف بدور رجل أدرك منذ وقت مبكر أن الصحافة ليست مهنة، بل مصير، وأن الثقافة لا تصنع في مؤتمرات، بل تبنى، حجرًا فوق حجر، على شغف الإنسان بالحقيقة، مهما بلغت كلفتها.
لم يكن فخري كريم صحفيًا بالمعنى الكلاسيكي. كان صانع بنى، معمارياً يشيد المؤسسات كمن يشيد مدنًا، وهذه المدن-المؤسسات طالما أصبحت أوطناً للمنفيين واللاجئين والمقاومين. من "طريق الشعب" إلى "المدى"، مرت تجربته من مخاض الفكرة إلى جسد الدولة، من جملة افتتاحية في جريدة سرية إلى إمبراطورية ثقافية مفتوحة على الضفتين: العربية والكردية، الإسلامية والماركسية، الحداثية والتقليدية. لم يكن ابن مدرسة واحدة، بل ابن المراجعة، وخصيم التصلب الأيديولوجي، وحليف الجمال حيث وجد.
حين صافح الشيخ منصور بن محمد بن راشد آل مكتوم وابتسم للكاميرا، لم تكن الابتسامة براقة، بل عميقة، مضمَخة بوعي تاريخي نادر: لقد جاء اعتراف متأخر من العالم العربي بمن رفض أن يكون تابعًا له، وبمن لم يتخل عن حلمه حتى وهو يراه يبتلع من أنظمة ترفض التعدد ولا تدين بالحرية.
أعترف – أنا الذي تابعته مذ أطلق مهرجانات المدى في دمشق، حين تحولت العاصمة الخائفة إلى واحة فكر وموسيقى وكتب – أنني شعرت بفخرٍ نادر. رأيت فيه مشروعًا أكثر من شخص، ذاكرة أكثر من فرد، شجرة نبتت على ضفاف النهر العراقي، وتمددت أغصانها إلى كل المثقفين العرب الذين لم يجدوا بيتًا إلا في كتبه.
كان التكريم صامتًا في جوهره، فخري كريم لا يحب الاستعراض، لكنه – هذه المرة – قبل النور على خشبة المشهد. قبل أن يقال له: "شكرًا"، لأنه هو من كان يقول الشكر، منذ سنوات طويلة، لكل من كتب، ترجم، صدر فكرًا في زمنٍ يعاقب فيه الفكر.
ذلك اليوم، بدا لي كأن التاريخ نفسه يعتذر منه. وكأن الصحافة العربية التي استهلكت أعمار رجال كثيرين دون أن تعترف بهم، قررت أخيرًا أن تنحني لرجل كتبها، لا ليعجب بها، بل ليصحح مسارها.
في لحظة التكريم تلك، لم يكن فخري كريم يتلقى جائزة فحسب، بل كان يمنح اعترافًا متأخرًا من فضاء عربي طالما خاف من المثقف حين يتجاوز وظيفته الزخرفية. لقد وقف هناك لا كرمز حي لمهنة الصحافة فقط، بل كاستعارة لعراق آخر، عراق الممكن الذي لا يزال يقاوم، عراق الحلم الذي مر من زنزانات الشيوعيين ومجلات المنفى ومطابع بيروت، ثم استقر على هيئة مؤسسة اسمها "المدى"، لا تسأل عن هوية الكاتب، بل عن صدقه، ولا تفكر في أرباح المعرض، بل في أسماء الكتب المعروضة.
وحين نزل فخري كريم عن المنصة، بدا وكأنه يحمل الجائزة لا لنفسه، بل لكل الذين كتبوا وهم يعرفون أن أحداً ما سيقرأ، لكل الذين أسسوا مجلات سرعان ما صادرتها الرقابة، لكل الذين حلموا بدار نشر عربية حقيقية، لا تبيع الأوهام بل تطبع الأمل. كانت ابتسامته تلك لا تشبه ابتسامات المنتصرين، بل ابتسامة من أوفى ووفى، من ظل وفيًا لفكرٍ يعتقد أن الكلمة لا تزال قادرة على تهذيب العالم، وبث النور في نفسه.