بغداد/ جنان السراي
أدّى إغلاق المجال الجوي العراقي في أعقاب اندلاع المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل إلى توقف مفاجئ في حركة الطيران الدولي، ما كبّد البلاد خسائر مالية كبيرة في غضون أيام قليلة، وفتح الباب أمام تساؤلات واسعة عن إدارة ملف النقل الجوي في ظل الأزمات.
وبحسب بيانات رسمية فإن العراق كان يحقق إيرادات مالية شهرية تقارب تسعة ملايين دولار من رسوم عبور الطائرات الأجنبية لأجوائه، والتي بلغ عددها نحو 700 رحلة يومياً. ومع دخول الإغلاق حيّز التنفيذ منتصف حزيران، خسر العراق ما يزيد عن مليون دولار خلال الأيام الأولى فقط، وهو رقم مرشح للارتفاع مع استمرار توقف المجال الجوي.
وفي تصريح خاص لـ(المدى)، قال الخبير الاقتصادي دريد العنزي إن "الخسائر لم تقتصر على رسوم العبور، بل طالت أيضاً قطاع الطيران المحلي"، مشيراً إلى أن "الخطوط الجوية العراقية تكبّدت أكثر من خمسة ملايين دولار نتيجة توقف المبيعات والخدمات الأرضية للطائرات الأجنبية، مثل التموين والصيانة والنقل الداخلي".
واعتبر العنزي أن "هذه الخسائر تمثل مؤشراً خطيراً على هشاشة هذا القطاع، وتكشف عن ضعف الإدارة في مواجهة الأزمات المفاجئة".
وأضاف أن "العراق كان يُعد ممراً ستراتيجياً لحركة الطيران بين آسيا وأوروبا نظراً لموقعه الجغرافي، لكن بعد الاعتداء الإسرائيلي على إيران، تراجعت جميع الخطوط الجوية المارة وتحولت إلى مسارات بديلة عبر دول الجوار، ما أفقد العراق ليس فقط إيراداته، بل أيضاً مكانته في خارطة النقل الجوي الإقليمي".
وبيّن العنزي أن "العراق يستقبل سنوياً نحو خمسة ملايين زائر في إطار السياحة الدينية، إضافة إلى أكثر من ستة ملايين مسافر داخلي عبر الطيران، ما يجعله مؤهلاً لأن يتحول إلى مركز اقتصادي متقدم في هذا المجال. لكنه أردف قائلاً إن "استمرار الإهمال الإداري وغياب الاستثمار الحقيقي في البنية التحتية، يحول دون استثمار هذا المورد الحيوي".
وفيما يتعلق بالخطوط الجوية العراقية، أوضح أن أغلب طائراتها غير محدثة ولا تلتزم بالمعايير الدولية، ما أدى إلى حظرها من دخول الأجواء الأوروبية، إضافة إلى أن بعض الدول الإسلامية باتت تضع شروطاً فنية خاصة للسماح لها بنقل الحجاج والمعتمرين. كما لفت إلى أن العراق بات قريباً من الدخول في "القائمة الرمادية" للمنظمات الدولية للطيران، وهو ما يعني احتمال فرض قيود إضافية على حركة طائراته في حال لم تُجرَ إصلاحات عاجلة.
وأشار إلى أن مطار بغداد الدولي يضم حالياً عشرات الطائرات المتوقفة بسبب أعطال فنية مزمنة، من دون وجود أية خطط حكومية لاستبدالها أو تحديث الأسطول. وأضاف أن تدهور هذا القطاع انعكس بشكل مباشر على المواطنين، الذين اضطر كثير منهم إلى السفر براً إلى دول الجوار، مثل الأردن وسوريا ولبنان وتركيا، ما تسبب بزيادة تكاليف السفر وحدوث إرباك كبير، لاسيما بين الطلبة والعاملين في الخارج.
وبيّن أن شركات النقل البري بدأت بتسيير رحلات بديلة، في ظل غياب أية خطة حكومية لمعالجة الأزمة أو توفير بدائل فعالة، وهو ما يعمّق الشعور بغياب التنسيق في إدارة القطاع.
من جانبه، قال الباحث الاقتصادي عبد الرحمن الشيخلي في تصريح لـ(المدى) إن "الخسائر المالية المباشرة الناجمة عن إغلاق الأجواء ليست إلا جزءاً من الصورة الكاملة"، لافتاً إلى "وجود خسائر غير منظورة لا تقل أهمية، تتمثل في كلف التعويض عن النقل الجوي المستبدل بالنقل البري سواء للأشخاص أو البضائع، ما أدى إلى مضاعفة الأسعار وزيادة تكاليف الشحن والتأمين، خاصة في ظل الأوضاع الحربية التي تشهدها مناطق النزاع ومحيطها".
وأوضح الشيخلي أن "العراق يعتمد بشكل شبه كلي على الاستيراد الخارجي، وهو ما يجعل كلفة التأخير الزمنية مؤثرة جداً، لا سيما فيما يتعلق بالبضائع الطرية والغذائية التي كانت تُنقل جواً لضمان سرعة وصولها".
وأضاف أن "استبدال هذا النمط من النقل باستخدام الشاحنات المبردة، يفرض أعباء مالية إضافية، تنعكس في نهاية المطاف على المستهلك العراقي".
وأكد الشيخلي أن "ضعف الإنتاج المحلي يفاقم هذه التداعيات، ويُظهر هشاشة البنية الاقتصادية، إذ لا تملك البلاد حالياً قدرة على تعويض التباطؤ في الإمدادات من خلال الصناعات الداخلية".
واختتم حديثه بالقول إن العراق، الذي كان يوماً ما مركزاً مهماً للنقل الجوي في المنطقة، مهدد اليوم بفقدان دوره بشكل كامل إذا استمر هذا التراجع دون تدخل سريع، مشدداً على أن استعادة مكانة العراق تتطلب إرادة سياسية، وتغييراً جذرياً في الكوادر الإدارية، وتطوير الأسطول، إلى جانب وضع خطة ستراتيجية تعتمد المعايير الدولية، وتوفّر شفافية في إدارة الإيرادات، من أجل تحويل قطاع الطيران إلى مورد اقتصادي وسيادي حقيقي لا يمكن تجاهله.










