ما الذي يعنيه ان تقدم عملا سينمائيا مقتبسا عن رواية سبق أن قدمت أكثر من عشر مرات؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي عاينه المخرج البريطاني جو رايت وهو يتصدى لإخراج رائعة الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي "آنا كارنينا" في فيلم بدأت عروضه على الشاشة الكبيرة في صالات مدن أوروبا وأميركا والشرق الأوسط ومنها العاصمة الأردنية عمّان.
ومن هذا السؤال انطلق صاحب الإخراج اللافت لرواية "فخر وكبرياء"، ليجد من النص السينمائي الذي وضعه توم ستوبارد، صاحب السيناريو المدهش لفيلم "شكسبير العاشق" وبه نال عنه جائزة الأوسكار، ما يوفر له قراءة معاصرة ومختلفة للنص الكلاسيكي الذي يحتفي بمصير امرأة تذهب مع عاطفتها إلى آخر الشوط حتى وان يبدو "آثما" بل اقرب إلى الفضيحة، لاسيما ان علاقتها العاطفية مع فارس وضابط شاب رغم انها متزوجة من ضابط وسياسي كان ينتظره مستقبل ما في الإمبراطورية الروسية القيصرية، لتجد نفسها لاحقا بلا زوجها الذي يغفر أكثر من مرة لها حماقاتها وخيانتها، وبلا عشيقها الذي يهجرها إلى غيرها، فتصبح عجلات القطار وهي تسحق جسدها انتحارا، نتيجة طبيعية لذلك السلوك الآثم.
القراءة المعاصرة والمختلفة للمخرج رايت، تأتي من استخدام تقنيات المسرح القديم لتكون الشكل المناسب لا لسرد الحكاية وإنما للانتقال بالمشاهد، حد أن ذلك الاستخدام يكون قد حقق انسجاما بين النسيج الاجتماعي للرواية وبين المشاهدين للفيلم، فيصبح الجميع شهودا ومشاركين في الأحداث ومعطياتها الجمالية والأخلاقية، مثلما وفرت تلك التقنية انتقالا سلسلا من مشهد حكائي إلى آخر.
وغالبا ما كان الانتقال إلى خارج المسرح، تعميقا للصورة وجمالياتها، خذ مشهد العاشق الخائب وريث الإقطاعيات الضخمة "ليفين"، وهو يخرج من عمق المسرح ليدفع ببابه الخلفي خروجا الى حقل ثلجي، ليصبح الانتقال من مدار خيبته العاطفية في عمق المسرح الداكن الى حقل الثلج بلونه الواحد والعاصف، تأكيدا لطريق عليه ان يعود من خلاله الى حياته الثقيلة الرتيبة.
ومثل هذا الانتقال بين حدود المكان "المسرحي" والعالم الخارجي يتكرر اكثر من مرة، بل إن الفيلم ينتهي بمثله ولكن هذه المرة بالعكس، اي من الخارج الطبيعي الفسيح الى حدود المسرح العتيق، فمشهد الزوج المتسامح "كارنين" (لعب دوره باتقان بارع الممثل جود لو) الذي يحيط بابنه من "انا كارنينا" ( الممثلة كيرا نايتلي) وابنتها من عشيقها فرونسكي ( الممثل الشاب آرون تايلور جونسون ) وهم وسط مرج من نبات اخضر فسيح، يتحول من الخارج الطبيعي الى داخل خشبة المسرح، ثم يمتد نزولا ليتحول الحقل الى فضاء يمتد ملغيا الابطال جميعا ليصل الى مشاهدي الفيلم في قراءة تنتصر لقيم المستقبل العابر في نموه للضغائن والخيانات والموت (الانتحار).
وفي حين اشرنا في أول هذا العرض النقدي الى استخدام المسرح في صنع هذه القراءة السينمائية، فإننا اشرنا أيضا الى الموسيقى، فالفيلم بدا في أحيان عدة وكأنه عرض مسرحي – غنائي، تلعب فيه الموسيقى دورا بارزا، وهو كذلك فعلا، فموسيقى المؤلف الايطالي داريو مارينيللي، حلقت بالمشاعر حين امتدت من أقصى الإثارة الحسية الى أقصى الانكسار النفسي في مشهد واحد، هو مشهد الرقص في حفلة فخمة شهدت محاولة إغواء بين "آنا كارنينا" والكونت الشاب "فرونسكي".
وفي الأداء، كان المخرج رايت، تابع إسناد بطولة أفلامه نسائيا النجمة كيرا نايتلي، وهي وان بدت جميلة وأنيقة، غير أنها لم تكن على المستوى المتعدد شعوريا عند "آنا كارنينا"، لا سيما مستوى الانكسار النفسي والخيبة الذي قادها أخيرا الى الانتحار. على العكس من هذا جاء أداء الممثل جود لو، لشخصية الزوج "كارنين"، وكأنه الشخصية الحقيقية في خيبتها من مشاعر الخيانة تارة، وانشغالها عن مشاعر الزوجة المتمردة لضمان السلوك الرسمي الوظيفي، تارة أخرى.
وفي حين بدت النجمة نايتلي وهي اقل من الوصول إلى المستويات الشعورية المعقدة لشخصية "آنا كارنينا"، كان النجم الشاب آرون تايلور جونسون في أدائه لشخصية الضابط الفارس وعشيقها "فرونسكي" في المستوى الخارجي ذاته للأداء: أي المظهر الفاتن الغاوي لشاب جميل من أصول ارستقراطية.
القيمة الأدبية الرفيعة التي جسدها تولستوي في رائعته، صاغها ببراعة في سيناريو لا يقل عمقا في التحليل الاجتماع لروسيا أواخر القرن التاسع عشر، والصخب في المشاعر والرغبات الصاخبة، الكاتب ستوبارد، كأنه يقول: من قدم نصا سينمائيا بمستوى "شكسبير العاشق" لهو قادر على أن يقدم "آنا كارنينا" عبر عمل جديد لكنه يظل مخلصا لأعمق ما في النص الروائي الأصلي، وهو ما كان فعلا، ووجد فيه المخرج البريطاني الشاب رايت (تولد العام 1972) خير عون على تقديم تحفته الفنية الجديدة التي ستدفع باسمه مرة اخرى نحو التنافس على جوائز قيمة، إذ كان قد نال جائزة .