مرة أخرى، يثبت بول توماس أندرسون تميّزه،
إذ يربط بين طوّاف جواكين فينيكس وزعيم ديانة.
فيليب سيمور هوفمان في تحليل رائع، حزين
عن أمريكا ما بعد الحرب
فيلم يول توماس أندرسون الجديد، "الأستاذ"، رائع، غامض وحزين على نحو لا يُحتمَل، في الشكل التقريبي للترتيب في السرد. إنها فقط تلك الروعة والتميّز الشكلي، سوية مع لمسة من زهو مفرط في العنوان، هما اللذان يمكن أن ينقسم حولهما المعلقون. فاجأنا أندرسون، فيما يُذكر، بأكبر عقدة مع فيلمه "سيكون هناك دم" في 2007، وما من مخرج جعل النقاد عصبيين أكثر من المخرج الذي صنع فيلمين استثنائيين على التوالي. وثانية أحسّ النقاد ببعض التردد بمنح الجائزة الكبرى، خائفين أن يبدوا متحمسين أو خصوما يسهل التغلب عليهم. شعروا بالحاجة الى تغيير المزاج، كي يعلنوا شرعية أصالة تقريظهم السابق. وأنا أعترف بأني بعد مشاهدة "الأستاذ" أول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي (المرة الثانية كانت في لندن قبل أسبوع)، واجهت لحظات مظلمة وجبانة من الضمير في هذا الموضوع، قبل أن ابلع كبريائي وأستجيب فقط لما كان أمامي: فيلم فائق الجودة.
مثل الكثير من أعمال أندرسون، هذا الفيلم حول روّاد، زعماء، وعائلات مختلة، ومثل "سيكون هناك دم" يدور حول أصول الحداثة الأمريكية، وحول نوع معين من التعويل على النفس والإيمان بها ما قبل تاريخي، مشاريعيا وانجيليا. في هذه الحالة، إنها السنة صفر لنظام عقيدة لم يبلغ حد العمر الذي يضع فيه لا عقلانيته فوق اللوم. فيلم "الأستاذ" هو عن الروحانية بيتية الصنع والفلسفة التافهة، عن بائع متجول متدين يبيع علاجا يشفي من كل الأمراض يقدم تطبيبا ذاتيا للعقل والجسد، يجذب إلى ديانته الجديدة الناس الوحيدين والضعفاء على نحو ميئوس منه. كل هذا يحدث في أمريكا ما بعد الحرب، مثل شيء خارج من صفحات شتاينبك أو دليللو، لكن مع مقاطع غريبة وغرابة قائمة خارج الأرض. تساهم في ذلك موسيقى جوني غرينوود المثيرة مساهمة قوية.
يقدم جواكين فينيكس أداءً قويا معذبا في دور فريدي كويل، الجندي المعوق الخارج من البحرية الأمريكية في 1945، مع انهيار عصبي، يتفاقم بإدمانه على خمرة المونشاين التي يصنعها بنفسه. وجهه محزز وهزيل يشبه وجه قديس من القرون الوسطى، يسير مغمغما ومقهقها على نحو غبي تقريبا، طائفا هنا وهناك وقبضتيه أسفل ظهره، ومرفقيه على خاصرته، مثل شخص في نقاهة من جرح رهيب – والذي هو بالطبع كذلك فعلا. (بالنسبة لي، كويل فينيكس يبدو بعض الشيء أشبه بنيل كاسيدي، الذي يؤدي دور دين موريارتي في فيلم كيرواك " على الطريق ". ) وهو الذي يحيا حياة قاسية، لائذا بالفرار، يجد نفسه مستخفيا على متن زورق بخاري كبير، غريب ومناف للعقل إلى حد ما.
المسؤول عن المركب هو شخص كاريزماتي يدعى لانكستر دود، يؤدي دوره فيليب سيمور هوفمان، خطيب مفوّه بوجه أحمر يلقب نفسه بـ ’’ الأستاذ ‘‘، بحركات مسرحية ومظهر ارستقراطي وطبع فولاذي. دور هو مزيج من أل رون هابارد، آين راند وديل كارنيجي. يؤمن في شفاء الأمراض الجسدية والنفسية من خلال اقتلاع الذوات السابقة والمتطفلين بين الكواكب من ملايين السنين، بواسطة استجوابات ومداواة مواجهية شبيهة بالتنويم المغناطيسي أو استعادة الذاكرة أو حتى العلاج بالصدمة الكهربائية التشنجية. يتسلى هذا الأستاذ بكويل، ويغدو من متذوقي خمرته، فيقرر أن يجعل منه حالة خاصة لعلاجه. فريدي هو فول [مهرج] لملكه لير، أو بطرس (أو ر بما يهوذا) ليسوعه. يعتزم الأستاذ أن يحطم فريدي ويعيد بناءه من جديد، وتمسي فوضى كويل وشعوذة دود حبيستان داخل رقصة موت – ايروتيكية وايروتيكية مثلية.
حين شاهدت "الأستاذ" أول مرة، شاهدته كدراما فصيحة من أفكار، كرواية فوكوية [نسبة الى فوكو] عن الجنون، تدور كلها حول رؤى عالمية مجنونة وهامشية مستبعدة من التواريخ السائدة للتنوير الغربي. في مشاهد ثانية، استجبت بإثارة أكبر للقصة الشخصية لكويل ودود، وقصة حبهما السخيفة، الشريرة والمدانة على نحو مؤثر. موهبة فريدي في تخمير المونشاين من أي شيء يقع في يده (محلول صبغ، سائل تحميض، فواكه، خبز)، وجعل نفسه حياة وروح الحفلة، هي ليست تفصيلا عَرَضيا. عبقريته المُسكِرة هي بالطبع هي النظير لموهبة دود في البلاغة المسكرة وفي الأفكار، اتحدا معا من مؤونة العلم والدين الرسمي. إنهما زوج متسم بالانسجام صُنِع في فردوس معتل اجتماعيا. كلاهما لهما باع طويل في الإدمان على زادهما الخاص، وربما كان كويل ودود سلفي الشووبيزنس؛ كلاهما يفهم كليا أفيون الشعوب، واختبراه على نطاق واسع على نفسيهما. لكن أكثر من هذا، يوحي أندرسون بأن كويل هو في النهاية أكثر حكمة من دود، وفَهِمَ أخيرا أن اجتماعه به كان رد فعل مباشر على حزنه الشخصي، على ضياعه لفرص وعلى ندم حياته. "الأستاذ" عمل واثق من نفسه الى أقصى حد، من صانع أفلام فريد، مختلف تماما عن معايير الإنتاج الهوليوودي: جريء لا يُفوَّت.
عن صحيفة الغارديان