أحمد حسن
في لحظة بدت فيها معادلات القوة في الشرق الأوسط مستقرة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، جاء التطور الأخير في الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي ليهزّ هذه الصورة من جذورها. المواجهة العسكرية التي امتدت لاثني عشر يومًا بين طهران وتل أبيب لم تكن مجرد حلقة إضافية في سلسلة الاشتباكات التقليدية، بل شكلت نقطة تحوّل ذات تأثير استراتيجي يتجاوز حدود الجغرافيا الإقليمية.
ما جرى لا يمكن اختزاله في تبادل للنيران أو مجرد حرب قصيرة الأمد وانما ما حدث هو كسر صريح لقواعد الردع التقليدية التي أرستها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة في المنطقة. فإيران، الدولة التي تخضع منذ سنوات لعقوبات اقتصادية قاسية وضغوط سياسية مكثفة، تمكنت من إثبات أن استراتيجيات الضغط الأقصى فشلت في ردعها أو إضعاف إرادتها الاستراتيجية.
الرسالة التي وجهتها إيران من خلال هذه المواجهة تتعدى الأهداف العسكرية المباشرة. إيران أعادت تعريف حدود القوة وأثبتت أن حتى القوى المحاصرة يمكنها، عبر دمج الوسائل العسكرية وغير العسكرية، التأثير على قرارات قوى عظمى مثل الولايات المتحدة و إسرائيل. القبول الأمريكي الإسرائيلي بوقف إطلاق النار، رغم نبرة التصعيد الأولية، يشير إلى تحول نوعي في معادلة الردع الإقليمي.
في المنطق الاستراتيجي الأمريكي الكلاسيكي كما صاغه هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي الردع يقوم على إقناع الخصم بأن تكلفة الهجوم تفوق مكاسبه. إيران، وفق هذا المنظور، نجحت في رفع تكلفة الاستمرار في التصعيد إلى مستوى جعل القوى المقابلة تفضّل الخروج بتسوية سريعة على تحمل أعباء حرب مفتوحة غير مضمونة النتائج.
أحد أهم تداعيات هذه المواجهة يتمثل في إضعاف المصداقية الردعية لإسرائيل، التي قامت استراتيجيتها الأمنية على ركيزتين، هما الحسم السريع والتفوق التكنولوجي (خصوصاً من خلال منظومة القبة الحديدية). الحرب الأخيرة أظهرت هشاشة هذه المنظومة أمام تكتيكات متطورة وغير تقليدية. لقد تم اختراق الجدار النفسي الذي طالما تم بناؤه حول "عدم قدرة أي طرف على كسر التفوق الإسرائيلي".
في الوقت ذاته، كشفت هذه الحرب محدودية الضمانات الأمنية الأمريكية لإسرائيل عندما تصل تكلفة الصراع إلى حدود لا تستطيع واشنطن تحملها سياسياً واقتصادياً على المدى الطويل. بالنسبة للعديد من الدول الإقليمية، هذا التحول يعيد فتح الباب أمام إعادة تقييم جدوى التحالفات الأمنية القائمة مع واشنطن وتل أبيب.
التغريدة الأمريكية التي أعطت الصين الضوء الأخضر لمواصلة استيراد النفط الإيراني لم تكن مجرد تصريح اقتصادي عابر، بل تعكس قناعة أمريكية ضمنية بعدم إمكانية إحكام الطوق الاقتصادي على طهران في ظل صعود قوى مثل الصين التي لم تعد تقبل بالانصياع الكامل للعقوبات الأمريكية.
هذا التطور يهدد بتحفيز تفكك تدريجي لمنظومة العقوبات أحادية الجانب التي استخدمتها الولايات المتحدة كسلاح رئيسي في إدارة الملفات الجيوسياسية. السماح للصين بشراء النفط الإيراني يعني عمليًا إقرار واشنطن بأن المسارات الاقتصادية البديلة التي خلقتها إيران بالتنسيق مع شركاء دوليين مثل الصين وروسيا قد أصبحت فاعلة وغير قابلة للعزل بسهولة.
من منظور نظريات النظام الدولي كما صاغها مفكرون أمريكيون مثل كينيث والتز وجون ميرشايمر، فإن ما جرى قد يكون مؤشراً على الانتقال من نظام أمني أحادي القطب، تحت الهيمنة الأمريكية، إلى نظام إقليمي أكثر تعقيداً يتسم بتعدد الأقطاب.
إيران، التي أثبتت امتلاكها لقدرات هجينة تشمل أدوات عسكرية مباشرة، حروب غير متكافئة، وأذرع إقليمية متعددة، أصبحت لاعباً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة أمنية مستقبلية. في هذا الإطار، تبرز طهران ليس كقوة عسكرية تقليدية، بل كقوة جيوسياسية مرنة قادرة على التحرك في فضاءات متعددة عسكرية، سياسية، اقتصادية بنفس الكفاءة.
الخطوة القادمة التي ينبغي مراقبتها بعناية هي كيفية إدارة إيران لفترة ما بعد المواجهة. هل ستتمكن من استثمار هذا الانتصار الرمزي لتحصين الداخل وتسريع مشاريع التنمية الاقتصادية؟ أم أنها ستقع ضحية لإرهاق اقتصادي واستنزاف طويل الأمد يقوض مكاسبها؟ في النهاية، القدرة على ترجمة الإنجاز العسكري إلى مكاسب استراتيجية دائمة هي التي تحدد النجاح الحقيقي.
بالنسبة للمجتمعات العربية والإسلامية التي عاشت لعقود في ظل شعور بالعجز أمام الهيمنة الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، فقد ولّدت هذه الحرب حالة نفسية جديدة قوامها تجاوز عقدة التفوق الإسرائيلي. هذه المتغيرات النفسية الثقافية قد تكون أكثر تأثيرًا على المدى الطويل من الضربات العسكرية ذاتها.
الشرق الأوسط وفق الرؤية الجيوسياسية الأمريكية التقليدية، كان يُدار عبر لعبة توازنات دقيقة تضمن بقاء إسرائيل كقوة مهيمنة وردع أي تهديدات جادة. لكن الأحداث الأخيرة كشفت أن هذه المنظومة أصبحت قابلة للاختراق، بل وأثبتت أن القوى الإقليمية تستطيع، بمرور الوقت، تعديل قواعد اللعبة.
قد نكون أمام لحظة مشابهة لما وصفه هنري كيسنجر بـ "التحولات الحتمية" التي تعيد تشكيل موازين القوى على نحو غير قابل للرجوع. إيران أثبتت أنها لاعب نظامي (System Player) في معادلة الشرق الأوسط وليست مجرد قوة معرقِلة (Spoiler).
السؤال الذي يبقى مفتوحًا في مراكز القرار الأمريكية.. هل ستسعى واشنطن لاحتواء إيران عبر إعادة دمجها في النظام الإقليمي والدولي؟، أم ستدخل في جولة جديدة من محاولات العزل التي أثبتت محدوديتها؟
في الحالتين، النظام الإقليمي كما عرفناه في العقود الأخيرة قد دخل مرحلة أفول. الشرق الأوسط يتجه نحو هندسة أمنية أكثر تعقيدًا، وتعددية في مصادر القوة، حيث لم يعد ممكناً لأي طرف مهما بلغت قدرته أن يفرض قواعد اللعبة منفرداً.










