TOP

جريدة المدى > عام > الأندلس الجديدة في زمان وصل الفنان جبران طرزي

الأندلس الجديدة في زمان وصل الفنان جبران طرزي

نشر في: 30 يونيو, 2025: 12:03 ص

خضير الزيدي
في العام 1944 ولد الفنان اللبناني جبران طرزي (Gebran Tarazi) وبعد سنتين من ولادته في دمشق التي فتح عينيه فيها على شواخص الامكنة التاريخية والتراث المشرقي العريق انتقلت عائلته الى مدينة الرباط المفعمة بالجمال والعمارة التراثية العريقة وجد هناك ما يسره حيث هواء بحرها متنفسا للتأمل وازقة مدنها القديمة وشبابيك بيوتها العريقة ملاذا لخصوبة خياله فولى وجهته نحو جبل طارق بن زياد كأية شمس تشرق على بلدان المعمورة فرى في احلامه مدينة عالقة في ذكريات العرب وهي (الاندلس) حيث النقوش والمقرنصات والاقواس والاهلة وفن العمارة يومها فكر كيف يكون فاتحا للفن الذي تعلمه على يد جده الذي فتح اربعة مشاغل حرفية بين بيروت والقدس والاسكندرية ودمشق فمرت السنوات سريعا فما ان بلغ اربعة عشر عاما حتى عاد مع اسرته لمدينة بيروت ولم ينس صورة الحلم الاندلسي متذكرا مدنا شهدت فتوحات كثيرة كغرناطة واشبيلية والاندلس في هذه المرحلة من عمره اكتسب المعرفة الفنية للأعمال التقليدية لأسرة طرزي التي العائلة التي امتهنت الخياطة وتجارة الاثار والانتيكا والحرفيات في كل تلك السنوات التي تمضي بعجالة الوقت تشبع عقله ووجدانه من التعامل مع الخشب المزخرف للجدران والسقوف التي تحيط بالديوان الدمشقي وبينما كانت مرحلة ستينيات القرن المنصرم حافلة بالمتغيرات السياسية والتوجهات المعرفية دأب الى تعزيز شخصيته الفنية فعكف منقبا لأبحاث تختص بالأدب والاثار والفنون التقليدية والمعاصرة فكان للسنوات الممتدة بين 1966 الى 1975 ان تعد كفيلة بتغيير وعيه وتعزيز ثقافته لان بلدا مثل المغرب ولبنان لا يختلفان عن ان يحتويا تاريخ الشرق العريق فلا غرابة ان تكون مقولة الفاتح العربي طارق بن زياد (البحر من ورائنا والعدو من امامنا) قد استحوذت على مخيلته وتؤثر في وجدانه واحلامه فيشرع في تغير الحرف التقليدية ويتوجه الى اصالة الفن التجريدي الهندسي وهو انقلاب معرفي تميز به دون اقربائه من عائلة ال طرزي التي عرف تاريخها منذ العام 1860 والتي كان له السبق ان يعمل فيها مسؤولا عن قسم التلوين للآثاث الشرقي وسقوف الديوان الدمشقي فبدأ التحول الاسلوبي والفكري يكبر حينما شرع في صناعة الصناديق الخشبية والمرايا عام 1988 يومها لاقى صعوبات في حياته ولكن بفضل المقربين منه من مثقفين ونقاد دخل معترك المعركة الفنية الكبرى ليكون فاتحا لإبداع انساني اكثر اهمية وتعزيزا في فنه فشمر عن ساعديه ليقيم معرضه الاول سنة 1993 الموسوم (36رؤية للمربع) غاليري لاماتور في شارع الحمرا عارضا فيها اكثر من اربعين عملا تجريدا وما ان تبين له دخوله معالم الفن الحديث حتى بات متصوفا منعزلا عن المجتمع ومذكرا غيره من الفنانين من جيله والاجيال الاخرى بمكانة الشرق واهميته التاريخية فقدم بيانه المعروف باسم (الحاجة الى الشرق) المنشور ضم كتابه (تنويعات هندسية) الصادر عن دار الفنون الجميلة في لبنان سنة 2007 والذي دعا فيه فناني المشرق والمغرب العربي لبناء الاندلس الجديدة وكانت غايته العودة لمعالم الجمال الحقيقي وعظمة الحضارة العربية التي عرفتها الانسانية بعد ان فرض عليه وجدانه وآماله التأني في تسويق اعماله حفاظا على استقلالية النزاهة الفكرية والابتعاد عن المتاجرة بفن يعلي من مكانة الانسان العربي، لقد بات واضحا بان كل من خبر وعرف جبران طرزي لا يختلف في التأكيد على ان مسيرته حلم اندلسي من نوع ينبض بالعلوم والجمال غايتها الحفاظ على الارث الفني وهي دعوة انسانية صادقة من فنان مارس الحرفة التقليدية وتنفس من هواء تراث مدن الشرق وفي ذات الوقت كانت دعوة لمراجعة الذات وما عاشته المنطقة من خيبات في امالها وحروبها وصراعاتها الاهلية.. بقيت رؤيته محتفظة بصورة الاندلس حيث النقوش والزخارف التي تسر الناظرين والابواب العالية المحصورة بين الحيطان فما كان من دعوته في بيانه (الحاجة الى الشرق) الا ان ينبهنا الى فاتح اندلسي جديد ينتمي لا سرة ال طرزي؟
التحول الفني عند جبران طرزي
يختلف هذا الفنان عن الاسماء الاخرى من عائلة طرزي بان عقله لم يكن ثابتا بل متحولا ولم يرتهن لمنهج او رؤية واحدة ولا يبقي لنفسه اثرا من البقاء سجينا لحرفة يراها تقليدية بل العكس انقلب في اللحظة التي شهدت بيروت فيها الحرب الاهلية حيث يومها تم تصفية مؤسسة طرزي للفنون العربية التقليدية فكانت لحظة الولادة الفنية التي ادخلته سجل الفن الحديث من خلال طريقته الاسلوبية في التعامل مع الفن التجريدي الهندسي عام 1993،هذا الفنان وجد نفسه في عالم اخر فاتخذ من كوخ العزلة مكانا وبات مبتعدا عن العالم الخارجي فتذكر مدينة دمشق التي ولد فيها واخذه الحنين الى المغرب بينما لسان حاله يقول جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل في الاندلس فمثلما انتقلت العلوم الطبيعية من دول البلدان العربية الى الاندلس في الفتوحات العريقة انتقل خيال الفنان من بيت اسرته التقليدية الى فضاء الجمال التجريدي الخالص وهكذا مضت السنوات منعزلا عن الاخرين لكن ما كان يشغله اكبر من العمر والايام فقد تجلت فيه روحية الفنان المتمسك بإرث الشرق وبدا حبه لهويته العربية مثالا يحتفى به في ذكر من احب بلدان الوطن العربي كبيروت والرباط ودمشق نعم لقد تذوق جمال تلك المدن فبانت على اعماله واثبت انه ملتصق بتاريخ الفتوحات المعرفية فلا غرابة ان تلتصق به صفة الفاتح الاندلسي لفن اوجدته عائلة عريقة منذ القرن الثامن عشر الى يومنا هذا فأي فتح واية زخرفة مدهشة فيها روح الارابيسك والرقش واي عناصر زخرفية تحملها روح ووجدان جبران طرزي؟ لم لا وهو القائل بان كلمة (بلدي) غنية بالمعاني وليس غريبا علينا ان نقيّم اسمه عاليا في محافل الابداع العربي طالما هو القائل (ليت المثقفين والفنانين من المشرق والمغرب يلتقون ليعلنوا انشاء الاندلس الجديدة) هذه الامنية التي ارادها كانت كفيلة ان نعده اول من يحقق ذلك الفتح ابداعيا ومعرفيا عبر الرسم والتجريد والانقلاب على الحرفة التقليدية الى جمال الفن الذي يجمع بين التراث العربي والحداثة الغربية اما عن لسان حالنا نحن محبو جبران طرزي فنقول طوبى لك ايها الفاتح الذي لا تليق بمثاليته الا وصف الاندلسي الجديد

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram