TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: بحثاً عن الضوء

باليت المدى: بحثاً عن الضوء

نشر في: 30 يونيو, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

ها هو الصيف يفرش تأثيره في كل مكان، حاملاً معه الألوان الصريحة والضوء الذي يبحث عنه الفنانون في أرجاء المعمورة. انه مرادف للألوان الزاهية، الصريحة، الدافئة والمبهجة. وبما أن فن الرسم لا يمكن أن يحيا أو يكون دون ضوء، لذا يبحث العديد من الفنانين عن أماكن تشرق فيها الشمس أكثر، حيث يمكن بوضوح رؤية تدرجات وتناغمات الألوان الزاهية والمشرقة والجميلة. تمامًا كما فعل الفنانون الأوروبيون العظماء عندما سافروا الى شمال أفريقيا، وهناك بدا لهم كل شيء نقيًا ومشرقًا وجديدًا، لأنهم لم يتعودوا على هذه الألوان الزاهية التي فاجأهم الصيف بها، ولم يختبروا مثل هذه الأجواء، وهذا ما أدى الى تغيّر طريقتهم في الرسم تمامًا. هناك في شمال أفريقيا، فُتحت دفاتر الرسم، وسُجِّلت المشاهد العابرة بأقلام الرصاص، لتصبح هذه الدراسات السريعة لاحقًا، لوحات فنية مهمة غنية بالضوء والتفاصيل والتكوينات الجديدة.
وقد أضافَ بعض الفنانين الى رسوماتهم تلك، بعض الألوان المائية، وهكذا صارت تلك الدراسات بمثابة أعمالاً فنية مكتملة، وشكلت مرحلة مهمة من تاريخ الفن. ورغم تفاوت مدة إقامة هؤلاء الفنانون في الشمال الأفريقي، إلا أنهم جمعوا رسوماتهم في النهاية وعادوا إلى بلدانهم لتحويلها الى لوحات زيتية، كما فعل الفنان أوغست ماكي الذي كتبَ الى زوجته اليزابيث سنة 1914 (أحمل معي الى الوطن كمية هائلة من الرسومات السريعة، والتي يمكنني بعد ذلك العمل عليها في بون وإضافة الكثير من التفاصيل لها). وهناك ماتيس الذي زار المغرب قبل سنة من ذلك 1912-1913، حيث تأثر بأشعة الشمس الساطعة، وقد رسم هناك العديد من اللوحات بألوان جميلة، حيث تأثر بالنوافذ المطلة على البحر، وأشجار النخيل، والمقاهي المغربية التقليدية، والأزقة الضيقة، والناس بأزياءهم المحلية المزينة بالزخارف، وقد رسم كل ذلك بألوان مشرقة وبلمسات سريعة، وأكد من خلالها بأنه أحد أهم مُلَوِني تاريخ الرسم.
قبلَ ذلك بكثير، كان أوجين ديلاكروا قد سبق الجميع، عندما سافر الى الجزائر سنة 1832، ورسم هناك لوحاته الخالدة، التي أدخل فيها نساء فاتنات، جالسات أو مستلقيات بإسترخاء مذهل، كما يتضح ذلك في لوحته الشهيرة (نساء الجزائر) حيث نرى كيف تمتليء الغرفة بالزخارف والموتيفات والتصاميم الشرقية الرائعة، حيث تأخذ المرآة بإطارها المزخرف مكانها على الجدار، فيما يلتمع البلاط الملون على الأرضية والجدران، وقد إزداد المشهد غموضاً وتساؤلات من خلال الستارة نصف المسدلة، ووسط كل ذلك ينعكس الضوء فوق وجود النساء الناعسات. مناخ دافيء وألوان مشرقة ونساء مليئات بالغواية، وفوق كل هذا تقنية مذهلة وأسلوب مدهش لرسم سحر الشرق. وقد كتبَ ديلاكروا في مذكراته بعد أن رأى حتى الظلال لها ألوان مختلفة ومتعددة (ظل الأشياء البيض هنا له إنعكاس أزرق قوي، وتبدو كل التفاصيل والأشياء بألوان مختلفة عما عرفته، حيث السروج بأحمر قاني والعمامات التي يضعها الناس علـي رؤوسهم بدت لي بلون أسود عميق جداً).
هكذا انفتحت أعين العديد من فناني أوروبا على الشرق، بمنمنماته، وألوان ملابسه، وحلي نسائه وإيماءاتهن الجذابة، وكذلك زخارف المنازل المتنوعة. حتى أشكال الأحذية وأغطية الرأس والأسلحة. كل شيء كان يصلح للرسم، وكل جزء كان ينادي الرسامين للتوقف أمامه وإدخاله في لوحاتهم، في شمال أفريقيا منحت هذه التفصيل إلهامًا جديدًا للفنانين لم تعتد عليه أعينهم من قبل.
هكذا يكتمل الجمال وتشرق روح الفن. ومثلما ينبعث الضوء دافئاً، تنبعث معه طاقات الفنانين الذي خطوا بخطواتهم نحو كل جديد ومُلهم ومؤثر.
وكما تكتمل دورة الحياة عند شروق الشمس ثم غروبها، هكذا يكتمل جمال الفن عندما يجتمع الشرق والغرب على قماشة لوحة واحدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram