محمد علي محيي الدين
ليس عيدًا عاديًا ذاك الذي تحياه الصحافة الشيوعية في العراق كل عام، بل هو احتفالٌ بالجرأة حين كانت الكلمة رصاصةً في صدر الظلم، وبالوفاء حين صار الحبر قرين الدم، وبالذاكرة التي رفضت النسيان، وهي تستعيد سيرة الصحافة المناضلة التي وقفت على الضفة الصعبة من النهر، حيث لا تطفو الأقلام، بل تُغرقها السيول، فلا تصمد إلا الكلمات ذات الجذور.
منذ أن شقّت جريدة كفاح الشعب طريقها في تموز من عام 1935، لم يكن الصوت الخارج من مطبعتها مجرد خبر أو تعليق، بل كان نشيدًا للطبقة المسحوقة، وصرخة من باطن الأرض. كان شعار "يا عمال العالم اتحدوا" أكثر من شعار؛ لقد كان نداءً أمميًا من فم بغداد، في زمنٍ كان فيه مجرد التفكير خارج جدران السلطة كُفرًا يُعاقَب عليه بالزنازين، وربما بما هو أدهى.
ومع أن تلك الصحيفة وئدت في مهدها، إلا أن روحها ظلت تتجسد في أسماء أخرى: الشرارة، القاعدة، العصبة، الأساس، اتحاد الشعب، طريق الشعب، الثقافة الجديدة... لم تكن عناوين وحسب، بل وجوهًا لصحافة تمتلك ضميرًا، وأجنحة تطير بها فوق رقابة السلطة، وتحت عيون الجلاد.
لم تكن هذه الصحف مجرد أدوات حزبية، بل كانت مدارس في الالتزام، تعلّم أبناء الشعب كيف يصغون إلى الحقيقة، حتى لو كانت مؤلمة، وتدربهم على قول "لا" في زمن كانت أل "لا" فيه شتيمة وخيانة. لقد حملت الصحافة الشيوعية أوجاع الناس، كتبت عن قضاياهم لا عن مآدب الساسة، وعن مصانعهم لا عن قصور الطغاة، وعن أحلامهم لا عن أوهام السلطة.
الواقع أنها كانت صحافة لا تُطبع فقط على الورق، بل تُنقش في ذاكرة الجماهير. التزمت بمبدأ لا يتزعزع: الكلمة الحرة لا تخضع. ولذلك لم تكن موضوعاتها تُصاغ بإملاء من فوق، بل تُنتزع من عمق الحياة، من أرصفة المدن المزدحمة بالبطالة، من حقول الفلاحين حيث الأيدي المتشققة تطالب بالعدالة، من وجوه النساء الحالمات بدور أوسع في الحياة، من أنين السجناء السياسيين، ومن نشيد الفقراء في صباحات الثورة.
لقد أدرك الحزب الشيوعي مبكرًا أن المعركة لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالكلمة أيضًا. فأسّس صحافته بوصفها لسان حال الفكر، وحارسًا على بوابة الوعي، وأداةً للفرز بين الزيف والحقيقة. وكانت قيادته تمارس رقابة عقلانية لا قمعية، تسترشد بالمبادئ لا بالأوامر، وتمنح الصحفي حرية الطرح ما دام ملتزمًا بقضايا الطبقة العاملة، وبخط الحزب الذي اختار طريق الشعب لا طريق السلطان.
وما بين سرّية المطبعة وعلنية المصادرة، ظل الحبر يُهرَّب كما تُهرَّب الأسلحة، وراحت الكلمة تُكابد لتُولد، وتُنشَر، وتصل إلى القارئ رغم العوائق. ولأنها اختارت أن تكون بوصلة في زمن الضياع، كانت أهدافها واضحة: لا تهادن، لا تجامل، لا تبيع مواقفها على موائد الحكومات.
لقد كانت الصحافة الشيوعية مدرسة في الجرأة، لا تخشى نقد السلطة ولا المجتمع، لا تسكت عن الفساد، ولا تصفق للباطل، ومهما كلّفها ذلك من دماء كوادرها أو تغييب كتّابها، فإنها استمرت، تستمد طاقتها من الشهداء، ومن رفاق حلموا بمجتمعٍ أكثر عدالة.
ولم تكن هذه الصحافة صوتًا سياسيًا محضًا، بل كانت أيضًا منبرًا للثقافة والتنوير. كتب فيها الأدباء والفنانون والعلماء، ونُشرت فيها مقالات عن قضايا المرأة، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والتنظيم النقابي، والتقدم العلمي. لم تُغلق نوافذها يومًا عن العالم، بل انفتحت عليه، ترصد ما يدور فيه من صراعات ضد الإمبريالية، وتناصر قضايا التحرر، وتنتصر للمقهورين في كل بقاع الأرض.
وإن أردت أن تبحث عن سماتها، فستجدها في كلمات محددة: الالتزام، المركزية، الواقعية، الموضوعية، الجرأة، الشمولية. تلك ليست شعارات تُقال، بل أخلاقيات مهنية وسياسية نمت في رحم النضال، وصارت جزءًا من نسيج تلك الصحافة التي لم تخن رسالتها قط، ولم تنحنِ لعاصفة.
لقد كان الرصاص ينتظرها عند كل زاوية، والمخبرون يتربصون بها في كل شارع، لكن الكلمة فيها كانت أعتى من السلاح، وأوفى من كل العهود. ولذلك حين نحتفل بعيد الصحافة الشيوعية، فإننا لا نحتفل بذاكرة ورقية، بل بروح ما تزال تقاوم، وصوت لم يخفت، وكفّ لم تسقط قلمه رغم كل ما مرّ من قهر واستبداد.
في هذا العيد، نقول للذين خطّوا بأصابعهم الحروف الأولى على جدران الخوف: شكراً لأنكم صدّقتم أن الكلمة تستطيع أن تغير العالم.










