ضحى عبدالرؤوف المل
يفرض الكاتب أنريكه- بيلا-ماتاس التأملات الأدبية العميقة بروحية فعل التوقف عن من خلال ال " لا" فنبرة بارتلبي الجوهرية مشحونة بأزمة الكتابة، والتوق إليها في كتاب بارتلبي وأصحابه الصادر عن دار المدى وفي الوقت نفسه النفور منها. بل محاولة لإخراج الرفض من بعده النفسي، إلى فضائه الثقافي الوجودي. فالرواي يبدأ بوصف لحياته كوحيد، فقير، يعيش في رتابة مكتبية خانقة. لكنه يشعر بالسعادة لأنه، في لحظة ما، قرر العودة للكتابة بعد انقطاع دام 25 سنة، وهو لا يكتب نصا عاديا، بل "هوامش" على "نص غير مرئي " في محاولة لفهم طبيعة الامتناع نفسه. فهل نحن أمام أدب يكتب حول اللا كتابة؟ وما معنى قوله " أن تكتب ما لا تستطيع كتابته معناه أن تكتب أيضا"؟ فهل السرد الذاتي التأملي اليومياتي النقدي في هذا الكتاب يدفعنا إلى الغوص بشكل أعمق في تفاصيله؟ وهل نحن أمام سرد ما بعد حداثي حيث يشير إلى نص غير مرئي ما يجعلنا أمام لعبة نصوص داخل نصوص؟ وهل يهاجم بيلا انريكه ويتنشتاين قائلا: " من لا يستطيع الكلام،فليصمت؟ بل عليه أن يصرخ!."
يستخدم الكاتب مفهوم " البارتلبي" كعدسة نقدية لفهم أدباء الامتناع، أولئك الذين يرفضون العالم بصمت. أو يكتبون ثم يصمتون. من بينهم روبرت والسر، خوان رولفو، رامبو، وغيرهم كلهم عانوا من " وعكة الكتابة" أو بالأحرى الوعي المتشدد بها، ما جعل الكتابة عندهم تتحول إلى صمت فني والعبارة الشهيرة " أفضل ألا أفعل" تصبح محور تفكيك هذا المزاج السلبي الأدبي. أما التماهي مع شخصية الناسخ (ناسخ الكتب أو الحكايات) هو طريقة لاستعادة الحميمية مع الكتابة من دون أن يُطالب الكاتب بالإبداع والتجديد. فقط النسخ، تكرار شىء موجود. الناسخ ليس أدنى من الكاتب، بل هو فرد في سلسلة من الخالقين الصامتين، مثل بوفار وبوشيه أو موظفي كافكا. " أن تكون ناسخاً ليس مرعباً بالمرة ".فهل الكتابة حالة مسرحية وجودية؟ أم أن المكتب، العمود، السكرتيرة، الخوف من شدّ اليد كلها تتحول إلى مسرح داخلي يحاكي عالم رولفو ومونتيروسو.؟ وهل الحلم نفسه يصبح مشهداً داخلياً لإعادة تخييل الذات بوصفها جزءاً من هذه الجماعة المتخيلة من النساخ والكتبة البارتلبيين؟ وهل كل هؤلاء يشتركون في خاصية واحدة وهي الكتابة التي لم تُنجز أو تم التخلي عنها عمداً؟
يجسد هذا الكتاب جوهر فكرة الامتناع الحكيم ضمن أدب الاعتراف الذهني. لماذا نكتب إذا كنت قد قلت ما يكفي؟ لماذا تلبي نداء النشر إن كنت تعرف أن ما كتبته جيد؟ الرواي يرى نفسه من خلال هذا الثعلب، ليس بوصفه كائنا كسولاً، بل كائنا يعرف متى يتوقف. فعبر الشخصيات مثل والسر،بازلن،نفهم أن التخلي عن الكتابة يمكن أن يكون قراراً واعياً ضد سلطة الشهرة، المؤسسة الأدبية. هؤلاء يختارون " أن يكونوا لا أحد" كما يقال عن بيو أو كما وصف هولدرين في جنونه الصامت. أكثر من مرة يُستدعى صمت الكتاب كفعل،وليس كغياب. " أن تكتب هو أيضا أن لا تتكلم. " العواء بلا ضجة (كما قالت مارغريت دوراس). الصمت هنا ليس نقصا بل شكلا من أشكال التعبير، أحيانا أصدق من النص المكتوب. فهل الصمت هو شكل من أشكال الكتابة؟ أم احتفال باللا نهاية. وهل ماريان غانج شاركت في كتابة " الديوان الغربي الشرقي " لغوته دون أن تُنسب لها الأبيات. والتي رغم موهبتها، اختارت الصمت، معبرة عن أن الشعر لا يُكتب إلا من تجربة عميقة؟
أما الرسالة المتخيلة من أدريان فهي لحظة الذروة الفنية في النص، حيث يبتكر الكاتب جوابا خياليا نيابة عن مؤلف لم يرد عليه. هذا التكنيك يعمق البعد التخيلي للعمل، ويجعل منه كتابة "تخلق ذاتها" تكشف بذكاء عن سخرية الكاتب من نفسه وعن حاجته لأن يجد مشروعا (مثل " كتاب فناني ال لا") حتى لو عبر سرقة فكرية متخيلة. أما لغة هذه الرسالة فهي شاعرية متأملة،ممتزجة بثقافة أدبية عميقة، وتحمل نبرة من الحزن الخفيف المختلط بالسخرية.الانتقالات من التأمل الشخصي إلى الشخصيات والمراجع الفكرية تتم بسلاسة،وتزيد من تماسك العمل ككل فمن ذكرهم من الكتّاب بمجمل عام في الكتاب ليسوا ":فاشلين " في الفن، بل متمردون عليه. إنهم يشتغلون ضد التوقعات كدوشامب يحرّف الفن. شامفور يجرح الجسد. بيتانكورت يختار الصمت.كافكا يتأمل عجزه. دي كوينسي يسترد وعيه. هرنانديث يتركنا في المجهول. يمكننا القول إن هذه الأسماء تشكل "جماعة اللاكتابة " أو "الكتابة المستحيلة" إنهم لا ينتجون كما يُفترض، بل يعيدون تعريف المعنى نفسه للكتابة كأن كل واحد منهم يصرخ بطريقته: " ليس علينا أن نكتب لنعني، أو لنكون." فكل هذا ليس مجرد استعراض لأسماء غريبة الأطوار، بل بيان فلسفي عن مأزق المبدع الحديث، الذي لا يملك أدوات التعبير الكلاسيكية ولا يرضى بالخضوع لمتطلبات المجتمع أو الفن ذاته.إنه عن الهشاشة والرفض،لكنه أيضا عن القوة الهادئة التي تكمن في الامتناع. فهل كل من ذكرهم من الكتّاب والمفكرين وغيرهم يشتركون في عميق الأدب بوصفه مساحة للغياب،للرفض، وللصمت.؟ وهل نحتاج إلى إعادة تعريف المبدع؟
هؤلاء الكتاب الذين ذكرهم أنريكه في كتابه يقترحون أن الفعل الأهم قد يكون اللافعل، وأن الفن لا يقاس فقط بما يُنتج،بل أحيانا بما يرفض إنتاجه.في عالم يطلب من الكاتب أن يكون آلة محتوى، ومن الفنان أن يكون مرئيا ففي كتاب بارتلبي وأصحابه تُحشد أسماء كتاب من عصور مختلفة وثقافات متعددة، لا بوصفهم مجرد رموز أدبية،بل كائنات قلقة، هشة، وتحيا داخل بنية السرد. هم ليسوا فقط من كتبوا عن العزلة والتمزق بل يُستدعون في الكتاب بوصفهم شهودا وضحايا، أحجيات في حوار داخلي طويل مع الذات الكاتبة. إذ يحضر كافكا، مثلًا، لا بوصفه أديباً حداثياً فقط، بل كمحورٍ انشطاري لعلاقة الكاتب بالعالم – وبتحديد أكثر – بالعزلة والحب واللغة. رسائله إلى فليس باور تتسلل إلى النص لا كوثيقة، بل ككناية عن الانقسام المستحيل بين الكتابة والوجود. لا يمكن النظر إلى ذكر كافكا أيضاً بوصفه استحضاراً بسيطاً، بل هو إعادة تموضع لصوت أدبي أصبح مرآة لذات تكتب لتبقى. على المقلب الآخر، يبدو خوان رامون خمينث، الحاصل على نوبل، وكأنه يتموضع كـ"مثال كلاسيكي" على الكاتب الذي أُثقلته ثنائية الذات والآخر – هو، وزوجته زنوبيا كامبروبي، يحضران كتجسيدٍ للكتابة بوصفها مشروعاً مشتركاً، عاطفياً وفكرياً، ومأساوياً في آن.
ثم يطلّ هنري روث، الروائي الأميركي ذي الأصول اليهودية، الذي كتب روايته الأولى ثم اختفى لأربعة عقود. أيقونة للقلق الأدبي والعجز الإبداعي، يُستدعى هنا بوصفه مرآة معكوسة لحياة الكاتب/الراوي، الذي يكتب عن الكتابة كما لو أنه يكتب ضدها.
أما سرفانتس، وبورخس، وساراماغو، فهم الحضور "الأبوي" للنص: كتّاب تشكلوا كأعمدة للذاكرة السردية، لكنهم يُستدعون هنا لا بوصفهم نماذج، بل بوصفهم أصداء؛ كأن السارد يعيد تفكيك سلطتهم لكتابة ذاتٍ جديدة: ذات المهمّش، القارئ، أو حتى الفتى "لويس فيليبي" الذي يكتب شعرًا بائسًا.
لكن المفارقة الأبرز تكمن في ظهور شخصية "بارونویكو بريث"، الكاتب المختلَق، الذي يخلق نصاً داخل نص، وهو من جهة يُحاكي كتّاب الواقع، ومن جهة أخرى يُفضح كاختراع. هنا تتكشّف عبثية "هوية الكاتب"، وتنقلب الطاولة: أليس كل كاتب، في نهاية الأمر، نوعاً من الخرافة الأدبية؟
لا يحتفل أنريكه بهؤلاء الكتّاب، ولا يمجدهم، بل يواجههم. يواجههم بوصفهم جزءًا من "العبء الرمزي" الذي يُثقل الكتابة المعاصرة. لكن هذا العبء، في الوقت ذاته، هو ما يمنح الكتابة قوّتها: كل كاتب يولد من موت كاتب آخر. وهكذا، فإن السرد لا يكتفي بتعداد أسماء كتّاب، بل يُعيد مساءلة ما تعنيه الكتابة، ومن هو الكاتب أصلًا. يصل السرد ذروته مع ابتكار شخصية "سكابولو" – العازب الهجين بين بارتلبي وكافكا. كائن رمزي مرعب، يتجول بين الظلال، ويعيش برفضه، بصمته، بحدبته، وتيهه الكوميدي، وكأنه صدى لحالة جماعية من الرفض المتقدم، من الشعور بالغرابة. سكابولو هو الساكن على الهامش، الذي يعرف أنه ليس من هذا العالم، وهو بهذا يصبح استعارة لكل كاتب أو فنان قرر أن يكون "مستوحشاً" بإرادته.
من دي كنزي ودو فو إلى شامفورت، تتكرر صورة الكاتب الذي يخون فعل الكتابة، لكنه بذلك يكتب نصاً أقوى، نصاً ناقصاً وناطقاً في آنٍ معاً. هؤلاء هم كتّاب اللاكتابة، الذين تركوا رواياتهم غير مكتوبة، أو أفكارهم غير معلنة، ليصبح الصمت هو الرواية. إنهم لا يكتبون "عن" الرفض، بل يمثلونه، ويجسدونه في اختيارهم الانسحاب من اللعبة، دون أن يتوقفوا عن التأثير.
يفضح أنريكه مركزية فكرة أن الفن ليس جوهراً مطلقاً، بل أداة لعب وهدم، كما عند رامبو وبيكيت وسونتاغ. القول "لا" يتحول إلى استراتيجية وجود، إلى فعل معرفي وميتافيزيقي يُشكك في كل شيء، في سلطة الكتابة، في معنى النجاح، وفي قداسة الفن. إنها كوميديا سوداء يمارسها كل هؤلاء الرافِضين، أبطال "اللعب السلبي" الذين يصنعون من الصمت مسرحاً صاخباً، ومن الغياب حضوراً متجاوزاً. هذا الكتاب النقدي العظيم – بحد ذاته سردية ميتا-أدبية – يُجسد كيف يمكن للرفض أن يكون أنبل أشكال التعبير. إنه مديح موجه لهؤلاء الذين انسحبوا، لا لأنه لا قدرة لهم، بل لأنهم عرفوا بعمق لا يُطاق أن الفن، كما يقول شامفورت، ليس سوى عبثية كبرى، وأن الصمت أحياناً أبلغ من كل كتابة. الكتاب ليس مقالة فلسفية، ولا رواية، ولا سيرة متخيلة، بل هو كيان نصي هجين، يمارس فعل الكتابة بوصفه شكا دائما في جدوى الكتابة نفسها.يعبر بنا من بوابة فيتنشتاين إلى مصير موباسان، مرورا بالمنعطفات المتشظية لذاكرة الأدب والغياب، حتى ينتهي بنا إلى سؤال واضح وغامض في آن:"هل لا زالت الكتابة ممكنة " وإن كان كذلك فبأي ثمن؟ وهل في عالم يفرض على الكاتب الظهور، يؤكد انريكي من خلال كتابه هذه أو روايته أن الكتابة الأصيلة قد تكون أكثر صدقاً عندما تُكتب في الامتناع عن الكتابة أو في الصمت؟ فهل بعد كل ما كتبه أنريكه في هذا الكتاب الرائع مارس فعل بارتلبي؟
الكتابة والامتناع عنها في كتاب بارتلبي... وأصحابه

نشر في: 2 يوليو, 2025: 12:01 ص