أوليفر بُركمان*
ترجمة: لطفية الدليمي
في كتابه المنشور عام 2023 بعنوان (محتّمٌ: حياةٌ من غير إرادة حرّة Determined: Life Without Free Will) يعرِضُ لنا عالِمُ السلوك والدينامية العصبية روبرت سابولسكي Robert Sapolsky، وبشكل غاية في الجاذبية والإقناع، الأسباب التي تجعل كلّ فعل نقوم به محدّدًا مسبّقا، فضلاً عن تقديمه أطروحة رصينة بشأن الأسباب التي يجب أن تجعلنا بعيدين عن الشعور باليأس بسبب غياب إرادتنا الحرّة المفترضة.
النقاش الفلسفي حول الإرادة الحرة يُذهِلُ الناس عندما يواجهونه لأول مرة. ولكي نكون عادلين ومنصفين يتوجّبُ علينا التصريحُ بأنّ المفكّرين الذين ينكرون وجود الإرادة الحرة يؤكّدون في الوقت ذاته أنّ لا أحد يختار ما يفعله بشكل هادف. في وقت سابق من هذا الأسبوع، على سبيل المثال، أثناء مروري بمقهى، توقّفتُ لشراء قهوة. بالتأكيد شعرت حينها أنّ بوسعي اختيارَ مقهى أخر. لم يُجبرْني أحدٌ على الدخول تحت تهديد السلاح، ولستُ عبدًا لإدماني الشديد على الكافيين. أردت القهوة فقط. لكن تمهّلْ وانتظر بعض الشيء: تلك الرغبة في تناول القهوة، والحركات الجسدية التي تنطوي عليها عملية الشراء، كانتا ناتجاً عن أحداث حصلت في دماغي. لنتساءلْ: ما الذي تسبّب فيها؟ إنّها أحداث دماغية سابقة تتفاعل مع بيئتي. دماغي ذاته، في هذا الشأن، هو فقط على ما هو عليه بسبب جيناتي وتربيتي، وكلاهما نتج عن لقاء تصادفي جمع والديّ - وهكذا، في سلسلة متصلة من الأسباب تعود أصولها الأولى إلى الانفجار الكبير The Big Bang.
إذا كانت أفعالنا "مُحددة Determined" بهذه الطريقة فإن المترتّبات الأخلاقية عليها تغدو مُذهلة. سيكونُ من العسير حينها إلقاءُ الملامة على هارولد شيبمان Harold Shipman (طبيب ممارس عام بريطاني عُرِف عنه القتلُ العمد لأكثر من 250 مريض خلال ممارسته الطبية التي إمتدّت ثلاثين سنة، المترجمة)، أو تشارلز مانسون Charles Manson (موسيقي تزعّم منتصف عام 1967 طائفة أمريكية أطلِقَ عليها "عائلة مانسون" ومقرّها كاليفورنيا. ارتكب أتباعه سلسلة من تسع جرائم، المترجمة)، أو فلاديمير بوتين أو دونالد ترامب على أي شيء يفعلونه. لو وُلِدْتُ أنا بجينات شيبمان نفسها، ونشأتُ نشأته ذاتها لكنتُ –ببساطة- مثله. لا يوجد ركنٌ سريٌّ في نفسي تختبئ فيه "إرادة حرة" شبحية، قادرة على اتخاذ قرارات أفضل ممّا فعل شيبمان. (أتجاهل هنا العشوائية في فيزياء الكم حرصًا على سلامتي العقلية. صدقوني، قليلٌ من مُنظّري الإرادة الحرة يعتقدون أنها تُحدث فرقًا كبيرًا).
ربما تشيع هذه الحالة لأنّ إنكار الإرادة الحرة يبدو منافيًا للبديهة العامّة Common Sense، وفي الوقت ذاته فإنّ الحديث عن الأشباح الداخلية غير علميٍ تمامًا. إن غالبية الفلاسفة يؤيّدون "التوافقية Compatibilism": يعتقدون أنّ أفعالنا مُحددةٌ بالفعل. لا ينكرون هذا؛ غير أنّهم يرون أنّنا نمتلك إرادة حرة. بالنسبة لمتشكّك في الإرادة الحرة مثلي فمن المرجّح أن يثير هذا الإعتقاد التوافقي همساتٍ هنا وهناك. يبدو أنصار التوافقيّة على الجانب الصائب من الأمر: إذا كنت ترغب في تناول قهوة، ولا شيء يمنعك من الحصول عليها؛ إذ لديك القدرة على تحمل تكلفتها، والمقهى مفتوح، وما إلى ذلك، فبأيّ معنى لا يكون شراؤك للقهوة فعالية ناجمة عن إرادة حرّة حقيقية؟ ألأنك لم تختر القهوة من الأساس؟ ولكن لتحقيق هذا التعريف للحرية يتوجّبُ عليك -كما يعتقدُ مناهضو الإرادة الحرّة- أن تكون حرًا في ألّا ترغب فيما تريده بالفعل. إنّها فكرة غريبة جدًا بالفعل. ستكون حرّا عندما تريدُ تناول القهوة وتُحجِمُ عن شرائها في الوقت ذاته. حينئذ فقط تكون لك إرادة حرّة. هذا ما يراه مناهضو فكرة الإرادة الحرّة.
في هذا السياق الباعث على الحيرة، يخطو عالم السلوك الشهير روبرت سابولسكي، الذي ينطلق في كتابه المنوّه عنه أعلاه "عازمًا على القضاء على الإرادة الحرة نهائيًا"، وليُظهِرَ أنّ مواجهة انعدام وجودها لا تُديننا حتما باللاأخلاقية أو الإنغمار في لجّة اليأس. من جوانب غرابة الكتاب أنه يفعل ذلك بأسلوب يُذكّرُنا غالبًا بشخصٍ مُتكاسلٍ من الساحل الغربي، واسع المعرفة (إشارة إلى مؤلف الكتاب الذي يعمل أستاذًا في جامعة ستانفورد الأمريكية، المترجمة). لم أزلْ أتعافى من ردة فعل قراءاتي السابقة له، وها أنا في كتابه الجديد المُكتظٍّ بالحواشي والرسوم البيانية للخلايا العصبية الحركية، أقرأ ما يسعى إليه الكاتب كنتيجة نهائية لعمله: نحنُ لا نتحكم في حياتنا. ليست لنا إرادة حرّة. يا إلهي. هذا مُريعٌ حقًا.
أعترفُ أنّ ستراتيجيّة سابولسكي طَموحة: تتبّعَ كل حلقة من السلسلة السببية التي تُؤدّي إلى السلوك البشري، بدءًا ممّا يحدث في الدماغ في الثواني القليلة الأخيرة قبل أن نتصرف تصرفاً محدّدًا وصولًا إلى كيفية تشكّل أدمغتنا من خلال التجارب المبكرة، وحتى قبل ذلك، وكلُّ ذلك في الغالب على المستوى الدقيق للناقلات العصبية والجينات. في سياق ذلك يُقدّم سابولسكي حُججًا حماسية ضدّ أفكار مثل "العزيمة Grit"، والتي يبدو أنّها تُشير إلى أنّ مَنْ نشأوا في مواقف تُرهق إرادتهم يمكنهم -ببساطة- اختيارُ تطوير المزيد منها. نعم، هناك أشخاص "تغلّبوا على سوء الحظّ بعزيمة وإصرار مذهليْن"؛ لكنّ قدرتهم على العزيمة والإصرار كانت بفضل الحظّ أيضًا. كلّ شيء هو حظّ بما في ذلك امتلاكُكَ السمات الشخصية المناسبة للتعامل مع سوء الحظّ. وعلى حدّ تعبير المُتشكّك في الإرادة الحرة غالِن ستروسُن Galen Strawson: "الحظّ يبتلع كلّ شيء".
كتاب سابولسكي هذا عملٌ بارع يستحقُّ القراءة المتفحّصة لمتعة صحبة سابولسكي المُطّلعة والمثيرة في قدرته المعرفية الثرية؛ لكنّ ما هو أقلُّ وضوحًا هو ما إذا كان هذا البحث الإستقصائي الشامل لأسباب السلوك البشري سيُغيّر موقف أيّ شخص من الإرادة الحرة؛ ففي النهاية يُقدّمُ مُعظم مُنكري الإرادة الحرة حُججهم على أسسٍ مُسبقة، أي أن حُججهم لا تعتمد على نتائج علمية مُحدّدة. على سبيل المثال إذا كانت الحالة الراهنة للعالم بأكملها ناتجة عن الحالة التي كان عليها العالم قبل ذلك مباشرةً، وكان العالم آنذاك ناتجًا عن الحالة التي كان عليها العالم قبل ذلك، وهكذا، فإن تفاصيل هذه السلسلة السببية لا يبدو أنّها تُهمّهم بشيء.
وسط هذه المعركة الفكرية بين منكري الإرادة الحرّة والمنافحين عنها يبدو أنّ المُؤيّدين للتوافقية (التوافقيين) قد تصالحوا، بحكم تعريفهم، مع فكرة أن كل شيء مُسبّبٌ بالكامل، ويُؤكّدون على أنه لا يُشكّلُ تهديدًا للإرادة الحرّة. لذا، يبدو من غير المُرجّح أن يُقلقهم إصرارُ سابولسكي على فكرة السببية الكاملة: أن كل شيء مُسبّب بالكامل تبعاً لآلية حتمية. ربما يعتقد البعض أن الإرادة الحرة كامنة في جزءٍ من الدماغ لم يُحدّدْهُ العلماء بعدُ. إذا كان الأمر كذلك فإنّ هذا الكتاب سيُصحّح وجهة نظرهم، ولكنْ في الفلسفة، على الأقل، هذه ليست وجهة نظر شائعة أو يمكنُ أن يدافع عنها فيلسوف.
ربما يكون الوعي الباطني بهذه القضايا هو ما يفسّرُ مَيْلَ سابولسكي لإخبار القارئ بمدى كراهيته لكتابة أجزاء كبيرة من الكتاب. يكتب في إحدى الفقرات في الكتاب: "إن عنْوَنَة هذا القسم من الكتاب بهذا العنوان السخيف يعكس مدى عدم حماسي لكتابة الجزء التالي". بعد حوالي 170 صفحة من الكتاب يؤكّد ثانية: "لا أريد حقًا كتابة هذا الفصل، ولا الذي يليه". قد يردُّ عليه مُنْكِرٌ آخر للإرادة الحرة: حسنًا، ربما لم يكن عليك فعل ذلك؛ إذ ما أن تُثبت عدم وجود مساحة للإرادة الحرة تكون حينها قد قلت كل شيء.
في أقسام لاحقة في الكتاب، عندما ينتقل سابولسكي إلى تناول موضوعة "كيف ينبغي لنا أن نعيش في غياب الإرادة الحرة؟" تبرز رؤية سابولسكي الإنسانية للعالم. يجادل البعض بأنّ إدراكنا لافتقارنا للإرادة الحرّة قد يدفعنا لأن نستحيل وحوشًا مفتقدة للمعايير الأخلاقية الرفيعة تحت مسوّغ أنّنا غيرُ مسؤولين عن أفعالنا؛ لكنه يطرح حجة مؤثرة مفادُها أن هذا الأمر، في الواقع، سببٌ للعيش بتسامحٍ وتفهمٍ عميقين، مدفوعين بإدراكنا "عبثية كراهية أي شخصٍ بسبب أي شيءٍ فعله". إنّه الأساس الفلسفي الأسمى لفكرة "لولا فضل الربّ لما كنتُ موجودًا". تكمن هنا مفارقةٌ مألوفة كما هو الحال في أي نقاشٍ حول كيفية استجابتنا لغياب الإرادة الحرة: إذا لم تكن هناك إرادةٌ حرة، فهل سنستجيبُ بالتأكيد بصرف النظر عن طبيعة استجابتنا (بمعنى بصرف النظر عن هل أنّ إستجابتنا طيبة أم سيئة، المترجمة)؟ لكنّ هذا لا يعني أنَ كتاب سابولسكي المثير لأعلى أشكال التعاطف والإنتباه لن يُغيّر طريقة تفكير الناس أو سلوكهم تجاه بعضهم. سيعني هذا فقط أنهم لن يكونوا قد اختاروا هذا التغيير بمحض إرادتهم وإنّما بتأثير سابولسكي، وفي هذا قدرٌ كبير من التقدير الذي يسعى إليه كلّ مؤلف لكتب من الطراز الذي يكتبه سابولسكي.
* أوليفر بُركمان Oliver Burkeman: صحافي وكاتب أعمدة بريطاني. ولد عام 1975 وتخرّج من جامعة كامبردج بشهادة جامعية في العلوم السياسية والإجتماعية. نشر أربعة كتب آخرُها هو الكتاب الذي عنوانه الترياق: السعادة لأناسٍ لا يطيقون التفكير الإيجابي
The Antidote: Happiness for People Who Can›t Stand Positive Thinking
* عن صحيفة (غارديان) البريطانية
هل أفعالنا حتمية؟ أين الارادة الحرة؟

نشر في: 2 يوليو, 2025: 12:02 ص