قيس قاسم
ينكأ "قصب السكر" (2024) جراحاً ما زالت آثارها وآلامها باقية في دواخل السكان الأصليين لكندا، جراء الجرائم العنصرية المرتكبة بحقهم. جرائم وانتهاكات فظيعة لم يمحها الزمن ولا الصمت المتعمّد المحيط بها، لأنّ الحاجة إلى تقصّي تاريخها، وإعادة التذكير بها، تفرض نفسها على سينمائيين استقصائيين، يدفعهم الإحساس بالحاجة إلى مراجعة تلك الفترة التاريخية، التي فيها خطّطت ونفّذت السلطات الحاكمة مشاريع عنصرية، تهدف إلى إذابة السكان الأصليين في المجتمع الأبيض، ومحو ثقافتهم، كي لا يبقى أثرٌ يدلّ على وجودهم فوق تلك الأرض.
لهذه المهمة، يتطوّع جوليان بريف نويزكات وزميلته الأميركية إيملي كاسي ليستقصيا ويوثّقا الوقائع الحاصلة في المدارس الداخلية، التابعة للكنيسة الكاثوليكية، منذ أواخر القرن الـ19. وجود نويزكات، ابن عائلة عاشت تجربة المدارس الداخلية، يضفي بُعداً شخصياً على مسار البحث الوثائقي، بينما يمنح تعدّد طبقاته مجالاً واسعاً للعام، لأخذ مساحته المطلوبة. يتوافق المساران كلّ مدّة فيلمٍ مشحون بالانفعالات والذكريات المؤلمة، المختلطة بالرغبة الصادقة في مراجعة الماضي، كي لا يُعاد تكراره، وكي يكون للتسامح والعفو عن المتورّطين في جرائمه معنى حقيقي.
من موقع مرتفع، يظهر أسفله بناء قديم، كان في الماضي مركزاً لـ"إرسالية سانت جوزف"، تؤطّره حديقة واسعة، يتوسّطها تمثال للسيدة العذراء، يتصل المخرج بوالده لتهنئته بعيد ميلاده، وهو يقف قرب المكان الذي شهد ولادته. في المشهد نفسه، تظهر على الشاشة عبارات تفيد بأنّ الحكومة الكندية، بدءاً من عام 1894، أجبرت أطفال السكان الأصليين على ارتياد المدارس الداخلية، في "مخطّط للتخلّص من المشكلة الهندية"، ومعظم تلك المدارس كانت تُديرها الكنيسة.
لأعوامٍ طويلة، تحدّث طلّابها الهنود عن إساءات وفقدان لزملاء لهم من صفوفها، في ظروف غامضة. المكالمة والعبارات المكتوبة يؤسّسان منطلقاً درامياً، يأخذ طريقه إلى التكامل منذ لحظة نشر الإذاعة المحلية لمنطقة "فيرست نايشن" إعلان السلطات الكندية الحداد، ونكس الأعلام، بعد اكتشاف المفتشين مقبرة مجهولة، قرب مدرسة قديمة في مقاطعة "كاملوبس" (كندا)، عثروا فيها على أكثر من 200 قبر من دون شواهد، تُدلّل على أصحابها. خبر ينكأ جروحاً قديمة لعائلات هندية أصلية، ويدفع المخرج إلى المضي في معرفة إلى من تعود تلك القبور. العلاقة الشخصية الملتبسة بين المخرج ووالده، والقطيعة بين والديه، تؤلم، وتفضي إلى مزيد من القصص المخيفة عمّا كان يحدث في المدارس الداخلية، التي يُكلّف متطوّعون كنديون للكشف عنها.
شهادة والده، المتأتية من بوح ومفاتحة لتصحيح علاقة بين أب وابنه، تُنبئ بأنّه من قلّة حالفها الحظ، ونجت من موت أكيد. في المكان المخصّص لحرق نفايات المدرسة الداخلية، عثرت امرأة عابرة على رضيع لا يزال حيّاً. لم يفصح رهبان المدرسة عن هوية والدته، التي، خوفاً من مغتصبها، تلتزم الصمت. التحقيقات الجارية، وشهادات الضحايا، تُفيد بتعرّض طالبات هنديات كثيرات للاغتصاب من بعض المشرفين عليهنّ، وبإجبارهنّ، بعد الإنجاب، على تسليم أطفالهنّ للرهبان الذين يدفنونهم أو يحرقونهم، تستراً على أفعالهم. في حالات كثيرة، كانت الأمهات يتعرّضن للتعذيب، وللقتل أيضاً. التحقيقات والملاحقة الوثائقية لها يُراد بها كشف هؤلاء الرهبان، وتقديمهم إلى العدالة، أو أقلّه دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى مراجعة تلك الفترة بشفافية ونزاهة، لإعادة الاعتبار لضحاياها.
المشاهد المتوالية لعملية البحث والتقصّي تضفي على الوثائقي حزناً، لقسوة ما مرّ به الضحايا، ولرفض الغالبية الحديث بإسهاب عن ماضٍ، لا تريد العودة إليه، كالجَدة الحزينة للمُخرج بريف نويزكات، المتحفّظة في الحديث عن مكان، مجرّد ذكره أمامها يُربك دواخلها، ويزيد قلقها. قصص مشابهة لقصّتها تتوالى ويتداخل بعضها بالبعض الآخر، وتدفع صانِعَي الوثائقي (إنتاج كندي أميركي) إلى المضي نحو مزيد من التوثيق والبحث، لمعرفة كلّ ما يحيط بوجود المدارس الداخلية في كندا، تاريخياً. هذا يجعل "قصب السكر" (اسم المحمية الطبيعية التي ينحدر منها أجداد المخرج) مُنجزاً سينمائياً باهراً، ومثالاً على ما ينبغي للوثائقي الاستقصائي أنْ يكونه.
الوثائقي لا يميل إلى التحرّي الصرف، بل يذهب برفقته لمعرفة ما يتركه كلّ انتهاك لآدمية الإنسان داخله، وكيف ينسحب منه إلى أجيال لاحقة. تجارب طلاب صغار يُجبرون على دخول مدارس كنسية، يتعرّضون فيها للاغتصاب والتعذيب. بعد مرور كل ذلك الوقت، ما زالوا يعانون آثارهما، وبسببهما تحوّلوا إلى مدمنين ومنعزلين، ومنسحبين من الحياة. قصة إدْ نويزكات، والد المخرج، الناجي من المحرقة، والذي كبر وتزوّج، لكنّ تبعات عيشه لقيطاً في المدرسة لا تغادر ذاكرته، وتجعله ميالاً إلى العزلة والانسحاب إلى الداخل. والدته التي مرّت بالتجربة نفسها، تلجأ إلى الكحول لمقاومة آلامها النفسية والجسدية. مثلها كثيرات دخلن مدارس الإذلال البشري.
تبرز، في مسار البحث، شخصيات عاشت التجربة، لكنّها تتمتّع بحصانة داخلية، تدفعها إلى قبول فكرة التسامح. ريك غلبرت، الابن غير الشرعي لأحد رهبان مدرسة داخلية، يشترك في تنظيم رحلة إلى الفاتيكان. يقابل الضحايا البابا، وفي اللقاء الشكلي، لا يسمعون موقفاً واضحاً منه، ولا وعداً بتحقيق شفّاف عن الفترة السوداء من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، يوم تعاونت مع مستعمرين عنصريين لإبادة أصحاب الأرض المنهوبة من دون حق. نتائج زيارة باهتة تحفّز الضحايا إلى الاستمرار في المطالبة بإعادة الاعتبار إليهم، عبر اعتراف الرهبان والكنيسة بالجرائم المرتكبة بحقهم، والتماس العفو منهم. هذا لا يلغي موقفاً آخر أكثر إصراراً، ينشد محاسبة واضحة للجناة وتقديمهم إلى العدالة.
وفق كلّ التشابك المُعقّد، الحاصل في المشهد السينمائي المنقول بجماليات مُبهرة، لا يُقدّم الوثائقي خلاصات نهائية، فما زالت هناك حقائق كثيرة مخفية ومسكوت عنها، لا يمكن لوثائقي واحد كشفها كلها. لهذا، يوصف "قصب السكر" بأنّه منجز سينمائي محفّز إلى البحث والكشف عن كل ما يراد طمسه من تاريخ الاستبداد الاستعماري.
"قصب السكر": مُنجزٌ سينمائي باهر بشكلٍ وثائقي استقصائي

نشر في: 3 يوليو, 2025: 12:03 ص