بغداد – تبارك عبد المجيد
تشهد بغداد ارتفاعاً سنوياً في عدد الحرائق خلال فصل الصيف، رغم وضوح أسبابها المتكررة، إلا أن الحلول المقدمة تبقى سطحية وغير فعالة. كان آخرها الحريق الضخم في فندق "قلب العالم" بالجادرية، الذي سبقته حرائق في مخازن وأسواق شعبية، تكشف عن استمرار الإهمال وضعف الإجراءات الوقائية، ما يجعل الكارثة تتكرر دون توقف.
يؤكد المهندس المحتص في السلامة المهنية، أحمد عبد الرحمن، إن أسباب انتشار الحرائق في الأسواق والمخازن تعود إلى "إهمال واضح في اتباع قواعد السلامة، إلى جانب التخزين العشوائي للمواد الخطرة، وعدم صيانة التركيبات الكهربائية بشكل دوري، مما يجعل هذه الأماكن بيئة حاضنة للحوادث. هذا الإهمال يضاعف المخاطر ويزيد من حجم الخسائر المادية والمعنوية".
ويضيف احمد لـ "المدى"، إن "تداعيات هذه الحرائق تتعدى الخسائر المباشرة، حيث تؤدي إلى تعطيل حركة الأسواق وتأثر سبل عيش التجار والعمال، بالإضافة إلى تفاقم أزمة السكن والبيئة نتيجة تدمير البنى التحتية. كما أن الخسائر الاقتصادية تؤثر على الاقتصاد الوطني بشكل عام."
وأكد على ضرورة تشديد الرقابة على تطبيق قوانين السلامة المهنية، ورفع مستوى الوعي بين العاملين وأصحاب المؤسسات حول أهمية الوقاية. وأكد أنه "بدون إجراءات صارمة وتطبيق حقيقي لمعايير السلامة، ستظل حرائق الأسواق والمخازن تتكرر، مع تبعات كارثية على المجتمع والاقتصاد". مشيرا الى حريق فندق قلب العالم :"بالرغم من ان الفندق حديث الافتتاح، الا أن إجراءات السلامة ضعيفة".
الحرائق ستزداد!
يقول حيدر نوري، وهو ناشط ومهتم بملف السلامة العامة في العراق، ويعمل في الهلال الاحمر إن "تكرار الحرائق في البلاد، خصوصا خلال فصل الصيف، لم يعد مجرد حوادث عرضية، بل أصبح مؤشرا واضح على خلل كبير في منظومات الوقاية وسوء إدارة المخاطر داخل المؤسسات الحكومية والمباني السكنية والتجارية".
ويبين لـ "المدى"، اننا " مقبلون على فصل صيف جديد، ومعه ستتكرر الحوادث التي غالبا ما تكون نتائجها مأساوية"، مشيرا إلى أن السبب ليس فقط في ارتفاع درجات الحرارة، بل في الإهمال المتراكم في التعامل مع شروط السلامة، وفي غياب الجدية من قبل الجهات المعنية، وعلى رأسها الدفاع المدني.
يلفت نوري إلى حوادث حرائق حديثة، منها حريق يقال إنه اندلع في مخزن للأجهزة الكهربائية في منطقة علي الصالح ببغداد، وآخر طال مطار بغداد الدولي، حيث لم تصدر نتائج تحقيق واضحة، واختلفت الروايات بين تماس كهربائي ووجود مواد سريعة الاشتعال :"للأسف، نسمع كل مرة عن الأسباب ذاتها دون أن نرى حلولًا حقيقية على الأرض. ارتفاع الحرارة وحده لا يُشعل النار، لكن الإهمال هو ما يحوّل شرارة صغيرة إلى كارثة"، يضيف نوري".
من أبرز ما يثير القلق، بحسب نوري، هو غياب أبسط عناصر الوقاية في عدد كبير من الدوائر الحكومية والمباني، بما فيها المستشفيات والمدارس والجامعات. "طفايات الحريق غير موجودة أو معطلة، مخارج الطوارئ غير فعالة، والمواد القابلة للاشتعال تُخزن بشكل عشوائي تحت أشعة الشمس أو قرب مصادر كهربائية".
ويوضح أن أكثر من 90% من الأبنية في العراق، بحسب تقديراته، تفتقر إلى مخارج طوارئ صالحة للاستخدام، خاصة في العمارات السكنية والمجمعات التجارية، ما يجعل أي حريق بسيط كارثة محققة في حال لم يُحتوَ بسرعة.
وينتقد نوري أداء الدفاع المدني، وخصوصا فرق التفتيش التي يفترض بها متابعة التزام المؤسسات بالمعايير الوقائية. "الزيارات التفتيشية إن وُجدت، فهي شكلية، ولا تتابع بجدية. كما أن أقسام الدفاع المدني داخل المؤسسات غير مفعلة، وغالبا ما تدار من قبل موظفين غير مدربين أو لا يمتلكون أي خبرة في إدارة الأزمات".
ويضيف: "بدل أن يكون هناك قسم فاعل يتابع يوميا تفاصيل السلامة، نجد أن هذا القسم مجرد اسم على ورق، بلا خطة أو تدريب أو أدوات فعلية".
ويحذر نوري من خطورة التماس الكهربائي، الذي يتكرر كل صيف تقريبا. “لدينا حوادث مؤسفة راح ضحيتها عوائل كاملة بسبب تماس بسيط داخل منزل أو بناية، والسبب ذاته: أسلاك رديئة، أجهزة متهالكة، وعدم وجود نظام إنذار أو تدخل سريع".
ويؤكد أن أغلب المنازل، وحتى المؤسسات، تستخدم مواد بلاستيكية قابلة للاشتعال بشكل كبير، دون أن يكون هناك أي رقابة على معايير البناء أو التوصيلات الكهربائية، ما يضاعف حجم الخطر في أي لحظة.
في ضوء هذه الوقائع، يدعو نوري الحكومة العراقية ورئاسة الوزراء إلى تشكيل لجان طوارئ داخل كل دائرة، تعمل على تنظيف المخازن من المواد التالفة والمخلفات. تفعيل قسم السلامة وتدريب كوادر، والتأكد من جاهزية طفايات الحريق وصيانتها، بالإضافة إلى فرض رقابة حقيقية على مخارج الطوارئ ومتابعتها، وتنفيذ تدريبات دورية تحاكي سيناريوهات الكوارث".
ويضيف نوري قائلا: "إذا لم نتحرك اليوم، فسنظل نكرر الأخطاء نفسها في كل صيف، ونخسر أرواحا لا ذنب لها سوى أنها وجدت في المكان الخطأ، في الوقت الخطأ، وسط نظام لا يحترم أبسط معايير السلامة".
وفي قلب المشهد المؤسساتي الذي تشوبه تحديات السلامة وتفاوت مستويات الالتزام، يواصل المركز الوطني للصحة والسلامة المهنية، التابع لوزارة العمل، أداء واحدة من أبرز مهامه، عبر تقييم بيئة العمل في مؤسسات الدولة، وخصوصاً في القطاع العام، من خلال جولات ميدانية دورية تهدف إلى رصد مكامن الخلل والمخاطر.
مشرق عبد الخالق، مدير عام المركز، يصف لـ "المدى" هذه المهمة بأنها ليست مجرد زيارات تفتيشية تقليدية، بل "رصد حي" لواقع العمل وظروفه، حيث تنطلق فرق المركز إلى الميدان لتوثق، بدقة، المخالفات التي قد تهدد حياة العاملين وسلامتهم. من تلوث بيئي، إلى مخاطر مهنية محتملة، وصولاً إلى الحوادث الناجمة عن الإهمال، مثل غياب أدوات الوقاية، أو استخدام وسائل غير آمنة كالسلّم غير المطابق لشروط السلامة.
وبحسب عبد الخالق، لا تقف مهمة المركز عند حدود التوثيق، بل تُرفع النتائج في تقارير رسمية إلى الدوائر المعنية، مع توصيات واضحة لتصحيح الوضع القائم. وتُمنح هذه الجهات ستة أشهر كمهلة لتدارك الخلل، ليعاود المركز إرسال فريق آخر، يتحقق من مدى التزام المؤسسة بتنفيذ ما ورد في التقرير الأول.
لكن، ورغم هذه الآلية المنظمة، تبرز عقبة قانونية جوهرية: المركز لا يمتلك صلاحية تنفيذية تلزم الجهات بالاستجابة. فغياب تشريع خاص بالصحة والسلامة المهنية في العراق، يضعف من فاعلية الإجراءات، ويجعل المركز جهة رقابية توثيقية أكثر منها تنفيذية.
مع ذلك، لا يتنصل المركز من دوره، بل كما يشير عبد الخالق، يتحمل مسؤولية الإبلاغ الكامل وتوثيق الإهمال، في حين تتحول المسؤولية القانونية إلى عاتق الجهة المخالفة في حال وقوع إصابة أو حادث في بيئة العمل.