د. نادية هناوي
كثيرا ما تتطلب مفاهيم مثل الواقع، التاريخ، التسجيل، التذكر، التأريخ وقفة متأنية قد تساعد في فهم الطريقة التي بها نشأت الأنواع الروائية، وما مقصد كل نوع منها وبم يشترك أو يتجاور في ما بينها.
وكان جورج لوكاش -وهو مفكر واقعي وأحد أهم منظري الماركسية وأكثر الغربيين تخصصا بموضوعة الواقع وصلاته التأريخية والتاريخية- قد نفى أن يكون للوعي الطبقي دور في تقرير التطور التاريخي، مؤكدا أن ما تهتم به الرواية الواقعية هو رصد الانعكاسات الواعية لمراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي التي هي ليست أحداثا تاريخية. ومن يقل إن الرواية الواقعية تعي هذه التطورات على أنها تاريخية، فإنه واهم؛ لأن هذا الوعي مجرد "وعي خادع أو كاذب" لما كان الناس قد فكروا به وشعروا بحصوله وأرادوه فعليا في ظروف تأريخية معينة وفي أوضاع طبقية معينة.
ولقد نظر لوكاش إلى التاريخ بمعناه الهيجلي، وركَّز على الروح العالمي بوصفه الفاصل الموضوعي بين ما هو تاريخي وغير تاريخي (زائف) واعتبر –الروح العالمي - أساسا توضع من خلاله قواعد كتابة التأريخ في الروايات الكلاسيكية التي تتناول عصر التنوير بكل ما فيه من تطورات اجتماعية وايديولوجية. ومما أخذه لوكاش على هذه الروايات أنها تستلهم من العصور الوسطى صورا من أجل مصالح سياسية، تشوه التطور التأريخي، متطلعة من وراء ذلك إلى التصالح الاجتماعي مع الرأسمالية. وعدَّ أعمال السير والتر سكوت استمرارا لرواية القرن الثامن عشر الواقعية الاجتماعية. أما ما قاله عنها بوشكين: (إن تأثير أعمال سكوت الروائي الاسكتلندي كوَّنت مدرسة المؤرخين الفرنسيين الجديدة.) فيعلله لوكاش بإحساس سكوت بشذوذ النمط الذي اتبعه الواقعيون الكبار مثل ستندال وبوشكين، إذ نظروا إلى الواقع بطريقة اجتماعية موضوعية ملحمية. وبذلك يكون لوكاش معنيا بدرجة واضحة بما هو تأريخي، مفترضا أنَّ الواقعيين ينظرون إلى الحاضر تأريخيا، وأن سكوت كان يتجنب ذلك (ويحتفظ في تصويراته بالموضوعية التاريخية العظيمة التي يتصف بها الكاتب الملحمي الحقيقي).
وما مقاربة لوكاش بين ما هو تأريخي وملحمي سوى دليل على أنه يرى أن التأريخ والتاريخ هما الفيصل في التعامل السردي مع الواقع؛ فإن كانت الرواية تميل إلى التأريخ فهي واقعية اجتماعية وإن كانت تميل إلى التاريخ فهي تاريخية. وفضَّل لوكاش الرواية التاريخية لأن موضوعها الأبطال بدءا من طفولة الجنس البشري مرورا بالعصور الوسطى وعصر النهضة وانتهاء بعصر التنوير. ومن هؤلاء الأبطال ريتشارد قلب الأسد ولويس الحادي عشر واليزابيث وميري ستيوارت وكرومويل وهنري الرابع وثرفانتس. والهدف من استحضار هؤلاء الأبطال هو بحسب لوكاش الوصل بينهم وبين فواعل الحاضر المعيش فرواية (نيرون الزائف) لفويشتفانغر أو رواية (هنري الرابع) لهنرنج مان وظفت هاتين الشخصيتين من أجل التبرم من الفاشية باتجاه صناعة طريق ديمقراطي ثوري والتسليم بحقيقة مؤداها أنَّ الشعب قد يصبح ضحية مؤقتة لأكثر أنواع الديماغوجية فجاجة. وما كان والتر سكوت يفعله هو أنه يجعل أبطاله ينمون في العصر الذي عاشوا فيه، وبذلك تتضح القوة الحقيقية لهؤلاء الأبطال. وهذا هو ما يسميه هيغل (الروح العالمي).
إن هذا الارتهان بالتاريخ وليس التأريخ هو ما يجعل الرواية التاريخية قادرة على تجسيد الشكل العصري للملحمة البرجوازية في حين تتمكن الرواية الواقعية أيا كانت درامية أو رومانسية من عكس التطور الاجتماعي حسب.
والأمثلة على الرواية التاريخية كثيرة وأغلبها تتمثل في ما كتبه جورجي زيدان من روايات تتخذ من الأبطال التاريخيين موضوعا لها غير أنَّ ثمة كتابا آخرين كانوا قد جايلوا زيدان، لكنهم غير مشهورين لقلة نتاجاتهم. ومن هؤلاء أمين محيي الدين صاحب رواية (حورية أو غانية الأناضول). والغريب أنها طبعت في زمانها ثلاث طبعات كان آخرها عام 1923. وقد تفضل الصديق الأديب سعيد الروضان مشكورا بإرسالها إلينا. وتسرد هذه الرواية أحداث الحرب التركية-اليونانية ما بين الأعوام 1919 -1922 وانتهت بانتصار قوات أتاتورك وقيام الجمهورية التركية وزوال العهد العثماني. وبطلتها حورية هانم التي لعبت دورا في هذه الحرب وهي على ما يبدو شخصية حقيقية لم يوثق التاريخ الرسمي قصتها فكان أن أدى الروائي دور المؤرخ وكتب رواية تاريخية توثق سيرة هذه المرأة الشجاعة التي عادلت جيشا بأكمله. وكانت محبة لوطنها وشجاعة مضحية في سبيله. ولشدة هذا الحب ولمقتها كل محتل أجنبي، تطوعت جاسوسة تنقل للأتراك مخططات الجيش اليوناني. وهذا ما ساهم في انتصار الأتراك في أسكي شهر وأنقرة.
ويقوم بناء الرواية على نسق التتابع والسارد عليم يعرف قصة البطلة حورية في ما قبل عملها جاسوسة وفي ما بعد ذلك. ومن خلال ذلك يتعرف القارئ إلى طبيعة الحياة وقتذاك وكيف كان حال الناس في أثناء قيام هذه الحرب. بمعنى أن قصة حورية هي توثيق تاريخي لما كانت عليه حياة الناس في ظل هذه الحرب. وهذا ما يذكرنا بشخصية المومس الفرنسية في رواية (البعث) لتولستوي.
وتبدأ رواية (حورية أو غانية الأناضول) بالبطلة حورية وهي تتنكر بلباس بحار في إحدى البوارج العسكرية لكن رئيس أركان حرب الأناضول يكتشف الامر فلا يقبل بفكرة أن تخدم امرأة في الجيش. فاضطرت إلى بيع شعرها الأصفر الطويل من اجل منكوبي الحرب. وقامت بتثقيف النسوة وتوعيتهن بمخاطر الأجنبي فكن على اثر ذلك يخلعن أسوارهن ليتبرعن بها للحرب. وتتصاعد الأحداث ويرضخ الجيش لطلبها وتعمل ناقلة للذخيرة (تحمل على كتفها الرقيق ما ينوء تحته اكبر دواب الحمل ثم تدرجت إلى ديدبانه فكانت تساهر الكواكب طول ليلها فلا يعرف الغمض طريقا إلى عينيها ثم إلى ممرضة فكانت تواسي الجرحى وتبكي لأنين مصابهم بكاء مرا ثم إلى جاسوسة فرئيسة لجواسيس الجيش الوطني حيث لعبت دور روايتنا هذه)
ويبدأ عملها الجاسوسي بتمثيل دور الراقصة صوفيا البلغارية التي تعرف اللغة اليونانية، فتنصت لما يتبادله الجنود اليونان من أحاديث حول معاركهم في أنقرة. وكان أن أحبها القائد اليوناني قسطنطين فكانت تتحايل عليه من أجل أن يطلعها على خططهم ضد الأتراك (تذكرت هذه الحرب الضروس.. لم لا تحيطني علما بهذه البلدان على الأقل اطمئن عليكم وافرح معكم إذا تم لكم النصر ودخلتم أنقرة هذه التي ترددونها على ألسنتكم كل يوم). وأجابها: (إن روح هؤلاء الشهداء ستتعلق يوم القيامة برقبة الأصل في نشوب هذه الحرب) وعرض أمامها خريطة الحرب، مبينا لها موقع أنقرة وموقع الكمين التركي. وأكد لها ما أعده الجيش من خطة في الغد، وانه سيستعمل السلاح الأبيض ثم طلب منها كتمان السر (أتعديني بأن تخلصي لي يا صوفيا؟ إلى آخر لحظة من حياتي يا قسطنطين إذا سأطلعك على جميع سري فلربما لا ارجع من هذه المعركة المقبلة.. وإياك من جواسيس الأتراك فالواحد منهم ثعبان في طيبة مسلمة يقترب منك فلا تميزيه لرشاقته وخفة حركته) ثم قام بتسليمها مستندات الجيش وأوراقه الخاصة تحفظها لحين رجوعه ووعدته بذلك.
وهنا تظهر شخصية مصطفى كمال القائد الذي تخفى في هيأة ديدبان عند نقطة تفتيش حدودية وتشاء الصدف أن تأتي حورية على فرس، ففاجأها وجوده وأقرت له بالوطنية (فالآمر كالراعي يسهر على حفظ رعيته) وعرَّفته بنفسها بوصفها رئيسة الجاسوسية وحكت قصتها مع معسكر اليونان وشرحت له دورها ثم أعطته المستندات والخريطة وأخبرته أن هجوما سيكون في الصباح الباكر، فقلّدها وسام الشرف الشاهاني. وحين تقع معركة "كوهاتيه" يكون لحورية دور فيها أيضا. وبعد انجلاء المعركة يأتي سر القارورة التي فيها دواء يفقد بصر جيش كامل. ويتغير مجرى الأحداث حين تقع حورية في الأسر ويحكم عليها بالإعدام وهنا يظهر الشاعر الجوال همليكار فيحاول إطلاق سراها ولكن يلقى عليه القبض ويحكم بالسجن. لكن سرعان ما تظهر شخصية ادهم وينجح في تهريبها من السجن بأن وضع امرأة أخرى بدلا منها. وتنتهي الرواية وقد تزوجت حورية ممن أنقذها (فتوافدت أشراف الوطنيين من كل حدب وصوب لتهنئة العروسين بدوام السعادة والعز فرحين مغتبطين بهذا الزواج الذي جاء في نصابه) في إشارة إلى انقضاء الحرب وانتصار الأتراك.
التأريخ والتاريخ في رواية مغمورة

نشر في: 7 يوليو, 2025: 12:03 ص









