TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: رسامة المحطات

باليت المدى: رسامة المحطات

نشر في: 7 يوليو, 2025: 12:05 ص

 ستار كاووش

نمرُّ بمحطات القطارات عادة كي نُكمل رحلاتنا نحو هذه المنطقة أو تلك المدينة، وهذا ما يفعله ببساطة، ملايين الناس الذين تعودوا على المرور كل يوم بمحطات القطارات المختلفة. لكن مَن مِن هؤلاء المسافرين إنتبه بشكل إستثنائي لهذه الأماكن الجميلة؟ مَنْ منهم عرف الجمال الحقيقي الذي يكمن خلف هذه البنايات الفريدة؟ من الذي حاول أن ينظر لهذه المحطات نظرة خاصة ويضيف لها قيمة جمالية؟
هذا ما أجابتْ عنه الفنانة الهولندية ساندرا ماكوس، التي رسمت كل محطات القطارات في هولندا، والتي بلغ عددها ستمائة محطة، حيث تفرغت تماماً للتنقل بين كل بَلدات ومدن هذا البلد الجميل، لتتوقف ساعات أمام محطاتها المختلفة وترسمها في أعمال جميلة بالأسود والأبيض تعكس جانباً مهماً من ثقافة هولندا وعمارتها وأساليب بناءها وتاريخ سكك الحديد التي تربط جوانب هذا البلد مع بعضها، كأنها شبكة عنكبوت كبيرة.
هكذا رأت ساندرا التي درست تاريخ الفن أيضاً، أن محطات القطارات ليست فقط بنايات يستعملها الناس للانتظار أو لقطع التذاكر والركوب فى القطارات المختلفة، بل هي حياة حقيقية تعكس حياة الناس والمدن ولقاءات الأصدقاء ومواعيدهم، وفيها يشعر الغرباء بأنهم في بيتهم، والمسافرون يحسون بأنهم جزء من حميمية المكان، حيث كل زاوية تروي حكاية الغياب أو الحضور، وكل ملمح يقول الكثير عن القطارات التي تشق الآفاق، حاملة العشاق والعمال والطلبة والباحثين عن الأماكن الجميلة، وكل ساعة تنطلق منها مصادفات الطرق والإكتشافات غير المنتظرة. وكل ذلك يمكن الإمساك به من خلال تذكرة صغيرة تنقلنا من عالم الى آخر. هذه هي القطارات التي تعتبر أجمل وسائط النقل في هولندا وأكثرها متعة.
وقد بدأ الأمر عند الفنانة ساندرا التي كانت تقود دراجتها كل يوم نحو محطة القطار الرئيسية في مدينة لمبورخ الجنوبية، كي تُكملَ الطريق الى مكان عملها. لكن في لحظة عابرة تغيرت نظرتها للأشياء التي حولها، حيث وقفت أمام المحطة وكأنها تشاهدها لأول مرة، وبدأت تتساءل مع نفسها عن هذا الجمال المذهل الذي تعكسة تفاصيل البناء، حيث تأخرت عن رحلتها وظلت واقفة تتأمل التفاصيل، وهنا قررت أن ترسم محطة القطار، وبعد بضع ساعات حين وصلت الى مكان عملها، توقفت أيضاً أمام محطة القطار التي تعودتْ أن تترجل فيها كل يوم تقريباً، ووقفت مندهشة أيضاً من شدة الخصوصية والجمال الذي يلف المكان، فما كان منها سوى أن ترسمها أيضاً، وكأنها إكتشفتها من جديد.
وهكذا بدأت تتنقل بدراجتها الهوائية في مدينة لمبورخ ورسمت كل محطاتها، ثم أكملت جولاتها لترسم المحطات المحاذية للمدينة، لتُقرر التوقف عن عملها والبدء بركوب القطارات هنا وهناك نحو كل جهات هولندا لترسم محطات القطارات غير مهتمة في أحيان كثيرة بالمناخ البارد أو حتى المطر، حيث أمضَتْ أربع سنوات كاملة رسمت خلالها ستمائة محطة في جميع أنحاء البلاد، في مشروع فني نادر ومدهش، حتى إنها رسمت أيضاً بعض المحطات التي توقف العمل بها ولم تعد القطارات تنطلق منها، لكنها رأتها كشاهد على تاريخ وثقافة وعمارة البلد.
هذا ما يمكن أن يقوله الفن للناس، إنتبهوا لمحطات القطار، أنظروا اليها جيداً، ولا تتذمروا حتى لو فاتكم القطار، ولا تفكروا بالضجر لو حضرتم مبكرين للمحطة، فهنا الكثير من الجمال الذي يمكنكم رؤيته والتمتع به، حيث النوافذ الملونة وزجاجها المعشق بالرصاص، والطابوق الأحمر الذي يلمتع تحت شآبيب المطر، وحتى الغياب الذي ينعكس على وجوه الفتيات الحالمات اللواتي ينتظرنَ أصدقاء ذهبوا دون عودة، فيما الأبواب المفتوحة تنتظر المسافرين، ووسط كل ذلك تصطف الدراجات الهوائية على مقربة من بوابة المحطة لتمنح المكان حيوية وألفة. كل هذا يجعل هذه المحطات حياة هولندية مصغرة، حيث الناس والعمل والمدن والعشاق.
هكذا يجب على الفنان أن يضع يده على شيء مميز وله طابع خاص، ليمضي في فنه وإبداعه الى الأمام، فالمواهب وحدها لا تكفي، بل علينا توضيفها بطريقة صحيحة ومناسبة، وأن نتجنب قدر المستطاع، الدروب التي سار عليها الآخرون، ونصنع طرقنا الخاصة حتى وأن كانت صغيرة، ومن خلال الشغف والحب والتفاني والعمل يمكننا أن نجعل هذه الطرق واسعة ومضيئة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram