TOP

جريدة المدى > سينما > ثقافة الحوار فــي الإذاعات والتلفزيونات العربية

ثقافة الحوار فــي الإذاعات والتلفزيونات العربية

نشر في: 12 ديسمبر, 2012: 08:00 م

نشأت فكرة وجوب نشر ثقافة الحوار في أواخر الثمانينات بعد سقوط جدار برلين ومحاولة تكريس نظام عالمي جديد يقوم على تحريك الاقتصاد الليبرالي العالمي نحو السوق الحرة وتطاير الثقافات العالمية ضمن منظومة الحقوق الفردية . وستكون ثقافة الحوار دعامة مهمة لتأسيس نظرة جديدة للتعامل البشري يقوم على هذا النمط الجديد من الاقتصاد والسياسة والثقافة .
وحتى نفهم مقومات هذه الثقافة ومستتبعاتها لا بد من تحليل جوهرها الأساس . فماذا يعني الحوار وما هي قواعده وشروط إمكانه؟ لقد دأب المفكر السياسي منذ نشأته على استعمال الخطاب الموجه إلى الناس دون واسطة ودون تشارك في التفكير لان همه الأول هو الإقناع وغايته الثانية هي الانضواء تحت أيدلوجية معينة . ونعني بالخطاب هنا مجموعة متواصلة غير متقاطعة من القضايا والجمل تستند إلى معنى وتحوم حول نظرية أولية تحاول تمريرها بينما يكون الحوار مشاركة في بناء القضايا واكتساب المعنى وتحديد النظرية وبسط القضية. وكلنا يعرف أن سقراط عندما اتجه إلى زعيم الخطباء في أثينا عصر ذاك ونعني به غورجياس وطلب منه التحاور في قضية الخطابة، اشترط عليه أن لا يخرج عن منهجية التحاور، بمعنى أن لا يلقي خطبة مهما اشتد النقاش وحمي وطيسه، فقبِل زعيم الخطاب هذا الشرط وعند إذ اتفقا على أن ينسحب كل من يقوم بخطبة ويعلن فشله، لان الحوار يعتمد التحقق من كل مسألة مطروحة ومن كل برهان ايجابيا كان أو سلبيا، بحيث إذا تم قبولهما من قبل المحاورين ومن قبل الجمهور الحاضر فان النتيجة ستكون معقولة ومقبولة.
أما القضية المرفوضة فيمكن نفيها او إعادة النظر في مكوناتها وبراهينها لكن الخطبة تقود الخطيب نحو إقرار أفكار قد تكون غير صحيحة او غير حقيقية او متناقضة وأحيانا بدون معنى لان غايتها إجبار السامع بالعنف الرمزي على قبول هذه القضية مهما كانت قيمة حقيقتها لأنها تقوم على النجاعة لا على الحقيقة .
وبدأت المحاورة بين سقراط وغورجياس حول إشكالية الخطابة ولم يتمكن هذا الأخير من استعمال تقنية الحوار لأنه خطيب بالأساس فتدحرج نحو الخطبة وقام بتناقض وضّحه له سقراط فانسحب معلنا فشله، مما حرك غضب تلميذه بولوس الذي كان حاضرا وشاهدا على ذلك فأخذ يحاور بعنف سقراط ولكنه أيضا قد سقط في الخطبة والتناقض وانسحب ليتدخل تلميذ آخر وهو كالليكلاس ويتابع الحوار إلى آخره دون أن يكون هناك منتصر أو منهزم.
ومن هنا نفهم أن الشرط الأول والأساس في الحوار الحقيقي لا يكمن في مجموعة من الخطب يضاف بعضها إلى بعض بمعنى أن تكون لكل محاور قابلية قصوى لفهم آراء الآخر ومناقشتها بحرية ودون خوف جراء حسابات مسبقة. ذلك لا يعني طبعا ان يأتي المحاور دون مواقف فكرية أو دون محددات فلسفية بل يعني أن يكون الفرد في ثقافة الحوار واعياً بذلك محاولاً التحري في هذه المعتقدات والتصرف فيها وإعادة النظر في مكوناتها وحتى في إعادة صياغتها وتكوينها، وإلا سيكون تدخله مجموعة من الخطب الجاهزة الفاقدة لكل شروط التحاور وسيكون فشله مثل فشل غورجياس وسيعتبر منسحباً من ميدان النقاش حتى وإن واصله متحديا شروط الحوار الحقيقية.
أما الشرط الثالث فهو يخص النتيجة الفعلية للحوار لا يعني ذلك أن يكون في كل حوار غالب ومغلوب، بل يعني أن إنتاج المعنى يجب أن يكون دائما حاضرا في الحوار لأنه مهما كانت حدة الحوار سيكون هو الواصل الدائم بين المحاورين وهو الفاتح لآفاق التعايش والتسالم، لذلك نجد سقراط في الأخير يترك الباب مفتوحا أمام نظريتين، نظرية القوة التي دافع عنها كالليكلاس ونظرية الحقيقة والسلم التي دافع عنها هو شخصيا. فكان الفكر في تاريخه الطويل يتأرجح بين النظريتين لا محال ولكنه ولّد بواسطتهما معاني العيش معاً مهما كانت التوترات والخلافات والمعارك.
ولا بد أخيراً من شرط رابع يبدو من أول وهلة غريباً ولكنه ذو أهمية قصوى ونعني أخلاقيات الحوار وأدبياته. فعندما اتفق سقراط وغورجياس على التحاور كان بينهما احترام كبير، إذ نوه كل واحد منهما بالآخر، واتفقا علنا وضمنيا على التمشي المقبول للحوار وتمت محاولة تطبيق ذلك بكل احترام وفشلُ غورجياس يعزى في واقع الأمر إلى طبيعة الخطابة نفسها وليس إلى عدم أخلاقيات غورجياس .
ونسوق هنا أيضا مثالا غير بعيد عنا ويهم مباشرة الحوار التلفزي، ففي القرار الذي أعلنته محكمة الاستئناف في باريس سنة 2006، في القضية بين باحثة مشاركة في حوار تلفزي وشركتيْ إنتاج وبث، نجد أن المحكمة قد اعتمدت في حكمها على "الجو المشحون الذي دار فيه الحوار" بحيث لا بد في كل تحاور من بعد أخلاقي يرتب تنظيم الحوار وينضم حقوق المحاورين.
هكذا إذن تقوم ثقافة الحوار على مبدأين أساسيين هما التعقل والحرية، وعلى بعدين مهمين هما إنتاج المعنى وتركيز الاحترام والتسامح. والسؤال الذي يهمنا بدرجة أولى هو الآتي: هل الحوارات التي نستمع إليها في الإذاعات أو التي نشاهدها في التلفزيونات العربية تستجيب لهذه المبادئ وترنو إلى تحقيق هذين البعدين؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال لأنه يتطلب دراسة ميدانية موثقة تتعرض إلى الحوارات تلك بالتفكيك والتمحيص والنقد، كما أنها لا بد أن تستجوب عينات من المستمعين والمشاهدين لسبر آرائهم ومعرفة مواقفهم وانفعالاتهم. وفي غياب مثل هذه الدراسات التقنية سأحاول هنا انطلاقا من تجربتي الخاصة وبناءً على ما تعرفت إليه من تقنيات ومواضيع أثناء مشاهدتي بعض هذه الحوارات في البرامج العربية، أن أقدم وجهة نظري في هذه الإشكالية.
يتبع
عن مجلة الاذاعات العربية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

قتل مفرزة إرهابية بضربة جوية بين حدود صلاح الدين وكركوك

الامم المتحدة: إخراج سكان غزة من أرضهم تطهير عرقي

الطيران العراقي يقصف أهدافا لداعش قرب داقوق في كركوك

"إسرائيل" تستعد لإطلاق سراح عناصر من حزب الله مقابل تحرير مختطفة في العراق

حالة جوية ممطرة في طريقها إلى العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية
سينما

وفاة ديڤيد لينش فنان الرؤى المميّزة.. وأيقونة السينما الاميركية

متابعة المدىوديفيد كيث لينش صانع أفلام وفنان تشكيلي وموسيقي وممثل أمريكي. نال استحسانًا لأفلامه، والتي غالبًا ما تتميز بصفاتها السريالية الشبيهة بالأحلام. في مسيرة مهنية امتدت لأكثر من خمسين عامًا، حصل على العديد من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram