طالب عبد العزيز
قد لا تبدو قضية مثل الإفراج عن قاتل إعترف بجريمته خادشةً أو مؤثرةً في شكل النظام السياسي إلا أنّها ستشكل الفأس الأولى في عملية هدم مبنى النظام برمته، والايذان بانهياره لأنها لن تكون الأخيرة، كما أنها تفصح بجلاء عن طبيعة النظام، التي يتهدد من خلالها السلم الأهلي، والامن المجتمعي، وتكون دالة كبرى على خواء النظام ذاك، الذي ستعقبه انهيارات أخر، تشمل مؤسساته الأخرى، إذْ سيكون من المستحيل سلامة مؤسسة بوجود خراب أخرى، وهكذا، سيكون الوقت قد آنّ للإنهيار الكلي.
ففي الوقت الذي تشكك فيه المؤسسة الأمنية- القضائية بإعترافات قاتل الناشط هشام الهاشمي، وملابسات الإفراج عنه، التي يعرفها جميع العراقيين، ويتندرون بها؛ بوصفها مؤشراً على اختراق المليشيات للقضاء العراقي؛ لا ينفع معه نفي وزارة التعليم العالي، أن تكون مجموعة من الجامعات العراقية قد ادرجت تحت الخط الأحمر، بسبب تزوير البحوث، ومثل هذه وتلك ستكون قضية الشهادات المزورة، من الجامعات اللبنانية والإيرانية، وسيكون أمر صمت الحكومة والبرلمان عن قضية بيع خور عبد الله، وسرقة نور زهير، ومن قبلها سقوط الموصل، والعقود الوهمية، وبيع المناصب، ووجود الفضائيين في الجيش والشرطة.. والقائمة تطول.
لا يختلف إثنان في العالم على فساد المؤسسة السياسية الحاكمة في العراق، وأنَّها أساءت استخدام السلطة في مفاصل الدولة كلها، وأنّّ المليارات التي أهدرت ولن تستعاد كانت بسببها، وإحتمالات سقوطها لن يفاجأ أحداً، فكل المؤشرات تقودنا الى ذلك، بل وباتت وشيكة من وجهة نظر البعض، إذْ أنَّ كل أسباب وموجبات البقاء لم تعد قائمة. نتهكم مع بعضنا حين نسمع أخبار مثل أنَّ هيئة النزاهة طالبت المرشحين الى الانتخابات البرلمانية القادمة بتقديم جردة بأموالهم وممتلكاتهم، وكأنها قامت بإدانة النواب السابقين، الذين أثروا من وجودهم في الدورات السابقة، أو أنها شرعت بتنفيذ أوامر قضائية، كانت قد صدرت بحق العشرات من المتهمين السابقين، وأنَّ السلطات الأمنية والقضائية أوقفت الهدر المريع في المال العام، وأنَّ الادعاء العام قام بواجبه في حماية مؤسسات الدولة....
لا يُفهم ازدحام التواقيع والاختام في الكتب والمخاطبات الرسمية والشخصية، الإدارية والمالية على وجه الخصوص؛ على أنها من أبواب الأمانة والمصداقية، إنما هو تصريح بالفساد، فالموظف المتدرج في أدنى سلم الوظيفة يريد تخلية نفسه، من مسؤولية توقيع الأعلى منه، وكذلك يفعل الأعلى، فالأعلى، لكنَّ النتيجة أنهم، جميعاً شركاء، ولكلٍّ منهم نصيب في النهاية. الطاقم الحكومي منذ عقود لم يحفظ شرفاً للوظيفة في البلاد، إذْ أننا لم نسمع أنَّ موظفاً تقدم باستقالته أو أقدم على الانتحار، بسبب إقالته أو عزله من الوظيفة، بتهمة الفساد أو الرشا أو الاجبار على توقيع مستندات تضر باقتصاد الدولة.
نقرأ في الاخبار عن انتحار النائب في البرلمان الفرنسي عن حزب الجمهوريين اليميني المحافظ أوليفييه مارليكس، لكنَّ القيم السياسية والوطنية لم تمنع زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي مانويل بومبار من القول بأنه "خصم سياسيٌّ، لطالما تحلّى بالاحترام، وصوت فريد من نوعه". ويصفه رئيس بلدية نيس، كريستيان إستروزي، بأنه "رجل شجاع، ملتزم، مستنير". ومثله فعل وزير النقل الروسي رومان ستاروفويت، الذي أقدم على الانتحار بعد ساعات من قرار الرئيس فلاديمير بوتين بإقالته من منصبه، بعد تهم بالفساد وجهت اليه. ترى أين كبار مسؤولينا الذين اعترفوا بفسادهم وإهانتهم العراق، وتخريبه، وبيع أرضه، والعبث بأمنه ووو من هؤلاء.؟
على الرغم من الخلافات الظاهرة على السطح بين الكتل الحاكمة إلا أنها مجتمعة شكلت صورة البلاد القبيحة اليوم، وما يختلفون عليه ليست مصائر البلاد، إنما هي مصائرهم، وإصرار المسؤول العراقي على البقاء في السلطة خرج عن كونه تمسكاً وحرصاً ووطنيةً، أو خشية تعرض البلاد الى الخطر، أبداً، إنما هو محاولة يائسة لإبعاد رقبته عن حبل المشنقة، لأنه يعلم كل العلم بأنَّه وراء كل ما حدث ويحدث، وأنَّ مصيره مرتبط بمصير السلطة، القائمة، اليوم، مثلما هو على يقين بأنَّ الخيانة والفساد وإساءة استخدام السلطة تهم لا تسقط بالتقادم.










