يوسف حمه صالح
شهد التعليم العالي في السنوات الأخيرة تغيرًا جذريًا نتيجة التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)، الأمر الذي فرض تحديات غير مسبوقة على الأنظمة التربوية التقليدية. وبينما يحتفي البعض بقدرات الذكاء الاصطناعي في تسهيل الوصول إلى المعرفة وتحسين جودة التعلم، تبرز في المقابل مشكلات تربوية ونفسية عميقة ترتبط بتأثير هذا الذكاء على العملية التعليمية من جهة، وعلى الطالب الجامعي من جهة أخرى. و قد استوجب ذلك تغيّر في النمط التقليدي للتدريسي الجامعي، و قد ينجم عن التطور فقدان في التفاعل العلمي الأكاديمي و تهديد لمكانة الاستاذ الجامعي و الاعتماد المفرط على المنتج العلمي الجاهز ألياً.
مع الاعتماد المتزايد على أدوات الذكاء الاصطناعي (مثل روبوتات المحادثة، والتقييم الآلي، والمنصات الذكية)، و تراجع التفاعل المباشر بين الأستاذ والطالب، مما أضعف أحد أهم أعمدة التعليم التقليدي: الحوار النقدي والمناقشة الصفّية.
و باتت خوارزميات الذكاء الاصطناعي قادرة على توليد محتوى علمي، وتصميم مقررات، بل وحتى الإجابة على استفسارات الطلبة، مما أدى إلى تآكل تدريجي في سلطة الأستاذ كمرجع معرفي وكموجّه فكري.
و أصبح كثير من الطلبة يعتمدون على أدوات الذكاء الاصطناعي لتوليد الملخصات، وحل الواجبات، وكتابة البحوث، مما يُضعف من مهاراتهم النقدية والتحليلية، ويقوّض فكرة "الجهد الأكاديمي الذاتي".
أما من حيث التأثيرات النفسية والمعرفية لل Ai على ذهنية الطالب فتتجلى في تراجع مهارات التفكير النقدي وفي سطحية التعلم و ضعف التواصل الوجداني و المعرفي و الاعتمادية التي تؤول إلى الكسل الذهني.
فعندما يُزوَّد الطالب بإجابات جاهزة وسريعة من أدوات الذكاء الاصطناعي، فإن دافعه إلى التفكير التحليلي والاستنتاجي يتضاءل. وهذا يشكل خطرًا على كفاءتهِ الذهنية بمرور الزمن، ويؤثر في قدرته على حل المشكلات الحقيقية، و يشجيع الطالب على جمع معلومات جاهزة دون الخوض في فهم السياق أو تحليل الأسباب والنتائج، مما يؤدي إلى تعلّم سطحي سريع الزوال لا يبني معرفة مستقرة أو معمّقة، فضلاً عن غياب التفاعل الإنساني في الاعتماد الآلي هذا مما يجعل التجربة التعليمية أقل إرتباطاً بالمشاعر والانفعالات، و يقلل من انخراط الطالب في المقرر ويزيد من مشاعر الاغتراب المعرفي التربوي. و كذلك ما يتمخض عن مرجعية الذكاء الاصطناعي في البحث عن الحلول نوعاً من "الاتكالية الذهنية"، حيث يفضّل الطلبة الحلول الجاهزة بدلاً من النشاط الذاتي الذي يُعِدّ من أهم أركان التعلم الفعّال، فالإشكالية ينجم عنها بلا شك نوع من الكسل المعرفي وضمور أو إنخفاض في القدرات الابتكارية.
و فيما يتعلق بالتداعيات الأخلاقية والتربوية فنحنُ نواجه جملة من المخاطر من أهمها، الغش الأكاديمي المقنّع و تراجع مفهوم الهوية المعرفية، حيث أصبح من السهل على الطلبة استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج بحوث أو حلول لا تعبّر عن جهدهم الذاتي، مما يهدد القيم الأكاديمية ويجعل من الصعب التمييز بين الإنتاج الأصيل والاصطناعي، مع التشابه الكبير في المنتجات التعليمية الناتجة عن أدوات الذكاء الاصطناعي، مما تقلل فرص التفرّد والتميّز الشخصي للطالب، مما يؤول ذلك إلى تآكل الهوية المعرفية للأفراد والمؤسسات الاكاديمية عموماً.
إن الذكاء الاصطناعي، رغم فوائده الكبيرة في تحسين كفاءة التعليم، يطرح تحديات جوهرية على مستوى البيداغوجيا الجامعية، وعلى مستوى الذهنية الطلابية. ولتجنّب هذه التداعيات، لا بد من إعادة التفكير في فلسفة التعليم العالي، وتعزيز التفاعل الإنساني، وتشجيع الجهد الذاتي، وترسيخ المهارات النقدية والأخلاقية، حتى لا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة للتمكين إلى آلية للإضعاف التربوي.
و قد تتطلب تلك المعالجات تغييرات عملية جذرية في هيكلية الجامعات و المعاهد و في إعداد تدريسيين مؤهلين للنمط الحديث في التعلم، و التخلي عن الأنماط التقليدية في قيادة الصف الدراسي، و التوجه إلى تنشيط دافعية الطلبة نحو التفكير الحُرّ المُجدي يتماهى مع مفردات المنهج بطريقة حديثة و مبتكرة.
و كان نقدنا دوماً للمؤسسات الاكاديمية التقليدية في بلادنا حول الفشل في إعداد مهني لائق للكادر تدريسي الذي يفتقر إلى المهارة المطلوبة في التعليم و إلى ثقافة تليق به كأستاذ جامعي مما آل ذلك إلى تفشي الجهل المُقَنّع تحت واجهات الشهادات العليا و الألقاب العلمية المزيفة، فهل بإمكان جامعاتنا التي دخلت اغلبها في المنطقة الحمراء بحسب المعايير الاكاديمية العالمية، هل بإمكانها النهوض بمستوى التربية و التعليم في خِضم هذهِ الموجات المستحدثة و المتسارعة جداً في وتيرة العلم و المبتكرات التكنولوجية!!؟.











جميع التعليقات 1
د. علي محمود
منذ 5 شهور
فعلاً مشكله اكاديميه أضحت تهدد التعليم بكافة مستوياته... وبحاجة إلى استراتيجيه علمية لمواجهة هذا النوع من التطور لما ليتركه من آثار سلبية على القدرات المعرفية والنفسية والاجتماعية.. جزاكم الله خيرا اخي العزيز