طالب عبد العزيز
في خطفة سريعة لي على سوق الكتب؛ في البصرة؛ أمس الأول؛ وقعت عيني على كتاب بعنوان (من تاريخ البصرة المنسي، مقالات المرحوم حامد البازي (1920-1995)التي جمعها وحققها وعلق عليها الدكتور حامد الظالمي، وكتب مقدمتها الشاعر والصحفي محمد صالح عبد الرضا، وصدر عن (سلسلة البصرة تاريخ عريق وثقافة متجددة) التي رعتها المحافظة، فكانت ولأكثر من سبب؛ واحدة من أجمل محطات اليوم ذاك، فقد سبق لي أنْ عاصرتُ المؤرخ، والراوية حامد البازيّ، وزرته في بيته مرات؛ صحبة الشاعر حسين عبد اللطيف(1945-2014) كذلك كنتُ مع الصديق الباحث، والمحقق د. حامد الظالمي، أسأل الله له الصحة والمعافاة مما هو فيه اليوم، وما كان كاتب المقدمة الشاعر واللغوي والصحفي محمد صالح عبد الرضا(1949-2024) إلّا واحداً من الذين اتخذتهم من الخلّان في صحبة الشعر واللغة والمحبة البصرية الخالصة.
حتى وقت قريب كنت أحتفظُ بنسخة مصورةٍ، رديئة النسخ، من كتاب البازي(البصرة في الفترة المظلمة) الصادر عن عام 1969 عن دار البصري، وهو واحدٌ من الكتب التي يحتفظ بها كلُّ معنيٍّ بتأريخ المدينة، وفي الفترة تلك بالذات، حيث تندر المصادر، ويقلُّ الباحثون والكتاب فيها، ثم أنني عثرتُ على نسخةٍ حديثة منه صدرت سنة 2017 عن دار الفيحاء فأقتنيتها. هكذا، بين معرفتي الشخصية به؛ وقراءتي لكتابه؛ أستطيع أنْ أقف على كثير مما يجهله البعض عنه، أو ما يتقول بعضٌ آخر به، حيث يؤخذ على (أبي مثنّى) بأنَّه مؤرخٌ شفاهي، في كثير مما يرد في كتبه(سنعلم بأنَّه صاحبُ مؤلفات كثيرة، منشورة ومخطوطة) وأنّه يعتمد على ما يسمعه من شيوخ ومعمري البصرة، وعن مشاهداته الشخصية، على الرغم من أنّه يذيل كتبه بالمئات من المصادر والهوامش، التي قرأتُ في بعضها عنه، وشاهدتُ الآلاف منها، مرفوفةً بمكتبته، الكائن بمحلة السيمر، في البصرة القديمة.
الكتابُ هذا عندي يرقى الى مقام الوثيقة، إذْ أننا سنكتشف فيه بأنَّ محمد صالح عبد الرضا يلتقي البازي سنة 1977على صفحات جريدة (المرفأ) البصرية، التي كان يصدرها إحسان وفيق السامرائي(1941-...) أطال الله في عمره، في حوار نتعرف فيه على ولادته بمحلة الخليلية، وعن نزوعه القومي التحرري، وانتمائه السياسي، وعن مجالسته لجاره، بائع الحلويات، المعّمر، الذي كان عمرهُ سنة 1936 مئة وخمس سنوات(105) والذي كان يعمل فلاحاً لدى(الباليوز) القنصل البريطاني في البصرة، والذي سجّل كلامه في سرد الاحداث، وبذلك يقول البازي:" أحاديث المجالس وذكريات المعمرين كانت من أهم مصادري" ويرادف البازي في تدوين الأحداث والوقائع والسنوات والاسماء فنقع على كنزٍ معرفيٍّ هائل، لن نجده في كتب أخر، ونقرأ في صحف بصرية كثيرة، كانت تصدرُ في السنوات تلك تجْملُ شكل الحياة في المدينة التي كانت.
في الكتاب سنتعرف أيضاً على (الصحفي)َ الكاتب، والقاص الكبير محمد خضير وهو يلتقى حامد البازي في حوار نشر بالعدد 3/4 من مجلة القلم، التي كانت تصدر عن نقابة المعلمين، سنة 1983بعنوان (لقاء مع حامد البازي) حيث تبدو المقاربة منصفةً بين الجاحظ والبازي عند محمد خضيرالذي سأله "تقدِّم كتب الجاحظ ورسائله شرائح عريضة لحياة البصريين الشعبية في العهد العباسي، هل إهتمَّ مؤرخٌ آخرَ بما اهتم الجاحظ به على هذا المستوى؟" فيذهب البازي الى ما هو أبعد من أهمية الجاحظ في التدووين، ويذكر أسماء مؤرخين لم نسمع بهم من قبل، مثل (أبو اسحق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي، البصري) المولود في قرية (نجيرم) بجنوب البصرة، والمنشوءُ فيها، وكان من جماعة الزجّاج، والراحل الى بغداد، والمهاجر ثمَّ الى مصر، وكاتب كافور الاخشيدي فيها، وهو أول من ألّف في كتب التراث الشعبي، وله كتاب بعنوان (أيْمانُ العرب في الجاهلية) وكذلك له كتاب آخر عن المآكل البصرية، ومنها الطبيخ.
ويوقفنا الكتاب على خمسة كتب صدرت للبازي، لكننا سنقف أيضاً على سبعة كتب أخر مخطوطة، لم تنشر بينها (تأريخ البصرة الكبير في سبعة أجزاء) الذي قال عنه في حوار محمد خضير:" أرجو أن يظهر كتابي هذا بمناسبة تأسيس مدينة البصرة" وله أيضاً كتاب (مختصر تاريخ البصرة في العهد العثماني)، و(رقصة الهيوة وأغاني الخليج العربي)، و(الثورة العراقية سنة)1920 وديوان شعر بعنوان(فجر العروبة) قدَّم له الشاعر بدر شاكر السياب- لا أستغرب مقدمة السياب له، فقد حدَّثني شخصياً عن صداقة له معه- وكذلك كتاب مباحث بصرية، وقد جاء في غلاف كتابه(الناهي والنويّهي) أنَّ له مجموعة كتب جاهزة للطبع هي (الفيضان) وهي رواية سينمائية، و(الشرف) سينمائية أيضاً، وهناك الكثير من المقالات واللقاءات منشورة في صحف ومجلات كثيرة كلها توثق تاريخ المدينة، من خلال أسماء قراها وأنهارها وضواحيها وقصور أثريائها والكثير الكثير.
لم يحط مؤرخٌ شعبي بما أحاط به المرحوم حامد البازي، فقد جمع بين الوثيقة والمصدر والمشاهدة والسماع واستنطق معمري وأعيان عصره وكتب موثقاً ما عجز من كتابته وتوثيقه الآخرون.










