TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: حامل الفانوس

باليت المدى: حامل الفانوس

نشر في: 14 يوليو, 2025: 12:05 ص

 ستار كاووش

ظهرَ الفن في العصور الغابرة بسبب حاجة الانسان الى التآلف مع تغيرات الطبيعة أو التصدي لقوتها وتأثيرها، وكان بمثابة حماية من الخوف والمخاطر. ويظهر ذلك من خلال الرسومات التي تركها لنا ذلك الانسان البعيد منذ حوالي أربعين ألف سنة، والتي تُشير الى الطرائد التى يحاول إصطيادها والحيوانات التي يريد تجنب أخطارها أو السيطرة عليها. وكانت النتيجة أعداداً هائلة من الرسومات الرشيقة المختزلة التي ظلت آلاف السنين في كهوف منسية، حتى تم إكتشافها هنا وهناك في مناطق مختلفة من العالم. لم يكتب أولئك الفنانون أسماءهم على تلك الرسومات طبعاً، وربما لم تكن لديهم أسماء أصلاً، حيث لا توجد دلائل أو معلومات كاملة حول هذا الموضوع الذي تفصلنا عنه سنوات طويلة جداً. بعد ذلك بآلاف السنين حين إنبثقتْ الحضارة العراقية القديمة ثم المصرية، لم يدون أحد الفنانين اسمه على المنحوتات والرسومات المختلفة، لأنها كانت جزءً من الحياة ومظاهرها، ونوعاً من التدوين والممارسات التي تخبرنا بطقوس وثقافة الناس فى تلك الفترات البعيدة. وفيما بعد، عند ظهور المخطوطات القديمة ومدرسة بغداد للتصوير، أيضاً لم يكتب الفنانون أسمائهم على تلك المخطوطات، لذا لم نعرف الكثير عنهم وعن طبيعة ومداخلات عملهم، حتى فَكَّرَ يحيى بن محمود الواسطي سنة ١٢٣٧ أن يكتبَ إسمه على مخطوطة مقامات الحريري التي رسمها بطريقة ساحرة أواخر العصر العباسي، ليتعرف الناس لأول مرة على إسم هذا الفنان وأسلوبه ورسوماته الفريدة التي تشبه الكنوز، والتي ظلت حيَّة وإستمر تأثيرها حتى يومنا هذا.
منذ تلك الانطلاقة التي قام بها الواسطي صار الفن فردياً لقرون عديدة، لكنه لم يبق كذلك حيث ظهرَ سنة ١٨٧٤مجموعة من الرسامين الانطباعيين الذين رسموا بتقنية متقاربة نوعاً ما، ليستمر بعدهم ظهور الجماعات والمدارس والتيارات الفنية، والتي جاء الكثير منها وخاصة في أوروبا كرَدِّ فعل مباشر على التقاليد الفنية القديمة، والأزمات وحتى الحروب التي مرّتْ بها الكثير من البلدان، حيث أرادَ الفنانون تمرير رسائلهم وإحتجاجاتهم الجمالية. وكانت هذه المدارس والتيارات الفنية بمثابة تنبوءات جديدة إن صحت التسمية، مثل التكعيبية التي ظهرت في فرنسا وجعلتنا ننظر الى الأشكال بطريقة جديدة، والتعبيرية التي بدأتْ في ألمانيا، وكانت عبارة عن ردة فعل لما حدث في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وإمتدت لفترة ما بين الحربين، حيث الخراب والدمار والتصدع الذي حدث في أرواح الناس والثقافة والاقتصاد وفي كل ملامح ألمانيا بشكل خاص.
والمفارقة هي أن ظهور الفن الحديث في بلداننا الشرقية، قد تزامن تقريباً مع توقف ظهور هذه المدارس الفنية في العالم. مع ذلك فالظروف التي مرَّ بها العراق والمنطقة بشكل عام، ربما كانت جديرة بظهور تيار جديد ونسق مختلف، وكان يمكن حتى الإبتعاد عن الفن الأوروبي وإيجاد مساراً خاصاً، لكن لم يتحقق ذلك ربما بسبب عدم توفر الحرية سواء في التعبير أو حتى فى إستخدام المواد المختلفة، ثم أن تشتت الكثير المبدعين العراقيين في بقاع متباعدة من العالم وبين ثقافات مختلفة حالَ أيضاً دون ذلك، كذلك فالفن الجديد يحتاج غالباً الى حاضنة جيدة وجديدة وتوقيتاً مناسباً ومؤسسات كبيرة تدعمه، كذلك يتطلب عروضاً مؤثرة وتنظيرات متسقة وأرشفة وكتباً، وطبعاً يحتاج الأمر الى جمهور يسير مع التغيرات بذات النسق. هكذا يجب أن تجتمع الكثير من المعطيات في بوتقة واحدة لتنتج طريقة تعبير مبتكرة، وربما تؤدي الى تيار جديد في الفن. وفوق كل هذا، هل لدينا شخصيات فنية ملهمة مثل تلك التي أمسكت بالفوانيس وسارت أمام الفنانين لتفتح الطريق أمامهم، كبيكاسو وكاندينسكي وبريتون؟ هل لدينا واسطي جديد؟
ومع أن الفن مازال -ظاهرياً- يمضي في مسارات فردية، لكن بسبب تطور وسائل التواصل ثم ظهور الذكاء الاصطناعي، عادَ الفن ليكون جماعياً، لكن أكثر من اللازم وضاعَ الحابل بالنابل، حيث أخذ الفن يتسع ويفتح أبوابه للجميع، وصارَ الناس يرسمون بطرق متشابهة، وليس هذا فقط، بل صار متاحاً لهم أن يمدوا أيديهم بسهولة الى تقنيات وأساليب الآخرين، لينسخونها ثم يدعون إنها من ابتكاراتهم الشخصية، حتى غرق الفن في تشابهات وتقاربات لا حد لها! ومع هذا (التطور) الرهيب إنزلقتْ خصوصية الفنان ولمساته الشخصية واسلوبه الفريد نحو هاوية التكنلوجيا التي بدت كأنها تعيده الى تلك الكهوف القديمة المليئة برسومات لا نعرف أسماء رساميها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram