المدى / خاص
في السماوة، المدينة التي قد تبدو بعيدة عن صخب المدن الكبرى، هناك مكان يعيد ضبط الزمن، ويأخذك من الحاضر المزدحم إلى ماضٍ موغل في القِدم. ليس متحفًا فحسب، بل هو ذاكرة حجرية تنبض بتاريخ بلاد الرافدين، وتحمل زوّارها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، حيث الكتابة الأولى، والختم الأول، والرمز الأول.
على رفوفه وخلف واجهاته الزجاجية، تقف أكثر من 600 قطعة أثرية، شاهدة على حضارات تعاقبت على أرض العراق، من العصر الحجري إلى فجر السلالات، ومن الوركاء إلى العصر العباسي. تأسس متحف السماوة الحضاري عام 2017، ليكون أول صرح يُعنى بالتراث المادي في محافظة المثنى، ويمنح أبنائها نافذة على عراقة منطقتهم.
داخل القاعة الأولى، يستقبلك تمثال “الأسد المجوف”، محنيّ الجسد لكنه شامخ الهيبة، يحرس إلى اليوم وجه فتاة الوركاء، إحدى أشهر الرموز الميثولوجية في حضارة وادي الرافدين. وعلى مقربة منه، تنكشف أمام الزائر أختامٌ سومرية، وأوانٍ فخارية نقشت عليها أوائل محاولات الإنسان العراقي لتدوين أفكاره، وكتابات سومرية تُعد من أقدم ما وصل إلينا من لغة مكتوبة على سطح الأرض.
تتوزع مقتنيات المتحف بين جناحين: الأول يضم آثار ما قبل التاريخ، أما الثاني فيخصص للعصر الإسلامي وما تلاه، ما يجعل المتحف مرآة بانورامية تعكس تعاقب الأزمنة والعهود على أرض المثنى، من العصر الحجري، إلى فجر السلالات، وصولًا إلى العهد العباسي.
بحسب إدارة المتحف، فإن الفئة الطلابية تمثل النسبة الأكبر من الزوار، حيث استقبل المتحف خلال العام الجاري أكثر من 700 طالب جامعي. وتقول فرح طالب، وهي طالبة في جامعة المثنى: “صُدمنا من حجم الآثار الموجودة لدينا. لم نكن نعلم أن هذه الكنوز في متناولنا. موظفو المتحف شرحوا لنا كل شيء بلغة مبسطة، وجعلوا التاريخ حيًا أمام أعيننا.” يروي توفيق عبد محمد، مدير متحف السماوة الحضاري، قصة تأسيس المتحف، قائلًا لـالمدى: “المتحف لم يكن مجرد فكرة، بل كان مطلبًا شعبيًا لأهالي المثنى. وبالتنسيق مع هيئة الآثار والتراث، ومحافظة المثنى، بدأنا بنقل القطع الأثرية وجمعها. كثير منها يعود إلى 5600 سنة قبل الميلاد، وبعضها نُقل من مواقع أثرية كانت مهددة بالإهمال أو التخريب.” ويضيف: “ما يميز المتحف أنه يوثق لتاريخ المثنى نفسها. معظم القطع المعروضة ترتبط جغرافيًا بمواقع أثرية داخل حدود المحافظة، وهذا يمنح المتحف خصوصية نادرة، كونه يمثل ذاكرة المنطقة لا العراق فقط.”
ويشير أحد موظفي المتحف الفنيين إلى أن: “كل قطعة تخضع للفحص والترميم قبل عرضها. لدينا خطة مستقبلية لإنشاء ورشة ترميم داخل المتحف للحفاظ على هذه الكنوز للأجيال القادمة.”










