طالب عبد العزيز
الى/ سرمد الطائي
مِنْ مُسْتَغْرَبِه بأربيل يبكي سرمد الطائيّ البصْريّ صِغرَ حجمِ حبّةِ رطبة البرحي، التي وصلته ممهورةً بالعطش، في تلميح الى ما تعانيه المدينة من الماء المالح، الذي اجتاح أنهارها وبساتينها ودخل بيوتها، وجعل الحياةَ فجيعةً ونكداً على أهلها، الذين ناصبهم البحرُ العداءَ منذ سنوات سبع، فهو يمور حقداً، ويطغى عليهم ملحاً وقت حاجتهم الى الماء الحلو، العذب، المبذول في الأنهار، المرفوع بالدلاء والمكائن سابقاً فالحبّات الخضر والصفر تكبر وتنضج به، وبه تينع الأرطاب، وتدبسُ التمور، وتخضرُّ الأرواح.. لكنَّ ذلك ظل خارج إرادتهم، بعيداً عن منالهم، بسبب اهمال الحكومات المتعاقبة، هذه التي أجهزت على كل ما هو روح وفطرة، وعلى كلِّ رَطْبٍ وينع من البشر والشجر، وأحالته حطاماً، يوجع القلبَ منظرُه، ويدمي الروح بتراتبه وتواليه، فالمدينة تستصرخ ناسها ونفطها وموانئها وحدودها لكن لا أحد يجيب.
تبدو جملة رئيس البرلمان الأخيرة(أشخُّ على العراق) هي الاصدق والاقرب الى الواقع المُرِّ للتعبير عن موقف المسؤول العراقي من أزمات البلاد، فالحوار القائم عن إنشاء السدِّ على شط العرب ظلَّ قائما منذ العام 2018 أي في اول اجتياح للسان الملح، ثم توالت المؤتمرات والندوات والشروح والاراء.. كلٌّ يقول رأياً، وكلٌّ يقترح مكاناً، وكلٌّ يقول بوجوبه، وكلٌّ يقول بلا حاجة له وهكذا، ظلت المدينة تتصحر، وتيبس، وتعطش، وتهلك، والمسؤول العراقيُّ مازال عند نقطة العام 2018 يقترح ويؤجل وينتظر، كما لو أنَّهم من بني إسرائيل، الذين قال موسى لهم: "إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"! هكذا، لم يستجب أحدٌ لنداء الملايين من البصريين، الذي تحولت حياتهم الى ما يشبه الجحم، إن لم تكن الجحيم بعينه.
قد لا يتصور أحدٌ في أيِّ مدينةٍ خارج البصرة شكل وفعل الماء المالح، الذي تسلّط على المدينة، ولا يفكرُ أحدٌ آخرُ بما يتركه من أثر في النفس الإنسانية! وماذا يعني أنَّك تنتظر صهريجَ الماء، يسوقه شرطيُّ من دائرة الدفاع المدني، ليتفضل عليك بمتر مكعب واحدٍ، من الماء المنقول من ترعة البدعة على حدود مدينة الناصرية، أو من محطات التحلية التي ببريّة الزبير، حيث يُمتاح ماؤها من الآبار والجلبان هناك! وماذا يعني أنْ تنقل الماء بسطلٍ تتأسف وتتحسر فيه على القطرات الصغيرة التي تسقط على الأرض، قائلاً: لو أنني غسلتُ بها وجه ابني، اِبنتي، زوجتي،! أقسم أن لا أحد من العراقيين غير البصريين شاهد شكل ثيابه موشاة ببقع الملح، أو مشرورة على حبل الغسيل، ورأى بأم عينه كيف يتحول القماش الناعم الى صفيحة من النسيج، ذلك لأنَّك لن تجرؤ على غسل ثيابك بالماء الحلو المقطور من الصهريج، فهذا ماءٌ طهور قدسيٌّ جلب لشرابك وطهي طعامك واستحمامك ووو.
سيضطر المئات من أصحاب البساتين، من زارعي النخل والخضار والأشجار الى شراء حاجتهم من الرطب والخضار من السوق، فقد هلك ما غرسوا، ويبست عذوق الرطب بما حملت، صارت حشفاً، فهي لا تصلح إلا علفاً للحيوانات، تلك التي كانت أملاً في تغيير الحال، ووعداً كامناً بالغنى. أمسِ، وفي تفقّد يائس أخير، كنت قد أطلتُ النظر ببرحية لي خلف البيت، كانت الأكبر بين النخلات، وأكثرهن حملاً، وأطيبهن طعما، وأقربهن الى الابناء والاحفاد.. وإذا بثمرها قد ضَؤل، ويبسَ، والتصقَ ببعضه، خالياً من روحه، بعيداً عن صفاته، غريباً في أرضه التي كانت مهبط الملائكة، وصحائف للنبوات ذات يوم. فيا سرمد الطائي عندي من الاخبار ما يسؤوك يأ أخي في النخل والانهار والتذكر، أيها البصريُّ المُستغْرِبُ بأرض الكورد عليك السلام من أخٍ تعوزه الطُمأنينة، ويغادره السلام.











جميع التعليقات 1
ياسين غالب
منذ 5 شهور
سلمت ..